والحقيقة أن هذا الكتاب الجديد الصادر في مارس الماضي الذي حاول فيه المؤلفان الإجابة على هذا السؤال، ليس الأول من نوعه فقد بذل الكثير من المؤرخين وعلماء الاقتصاد في العصر الحديث جهودًا كبيرة في محاولة البحث عن الأسباب التي جعلت معظم دول قارة أمريكا الشمالية وأوروبا غنية ومعظم دول آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية فقيرة وتوصل بعضهم في الإجابة على هذا السؤال إلى القول: إن الدول الغنية كسبت اللعبة من خلال أساليب الغش أو لأن الدول الفقيرة أصبحت كذلك لأسباب تتعلق بتدني التعليم وبسبب الموقع الجغرافي الذي تشغله بما وضع العائق أمامها للنهوض، وهو ما استبعده الكتاب بشكل كامل. نظرية جديدة يرى جيفري ساكس مدير معهد الأرض وأستاذ التنمية المستدامة وأستاذ السياسة الصحية والمستشار الخاص للسكرتير العام للأمم المتحدة بان كي مون، في شرحه لهذه الفكرة كما جاءت في الكتاب، أن النمو الاقتصادي يتوقف على عامل واحد: المؤسسات السياسية للدولة. أو بمعنى أدق، يعتمد على الحكم الرشيد ومؤسساته التي تؤدي بدورها إلى نشوء مؤسسات اقتصادية ناجحة من شأنها دعم حقوق الملكية وتحقيق تكافؤ الفرص وتشجيع الاستثمارات في التقنيات والمهارات التي تشجع على النمو الإقتصادي، على عكس المؤسسات الاقتصادية الانتهازية التي تعمل على استنزاف الموارد من الأغلبية وتضعها فى يد الأقلية. وهو ما سوف يؤدي بدوره إلى زيادة الدخل وتحسين معيشة المواطن. ويمكن القول أيضًا في ضوء ما طرحه الكتاب من أفكار: إن النمو الاقتصادي يعتمد على الاختراعات الجديدة (كمحرك البخار الذي أدى إلى الثورة الصناعية)، وأن هذه الاختراعات تحتاج إلى البحث العلمي. وأن هذه الأنشطة تحدث فقط عندما يتوقع أولئك المخترعون حصاد الفوائد الاقتصادية لمخترعاتهم، حيث يؤدي حافز الربح إلى الانتشار والمنافسة، فتظهر المزيد من المخترعات التي تساهم في تقدم البلاد. أما المؤسسات السياسية التسلطية التي تعتمد على الحزب الواحد وتؤدي إلى سيطرة حزب واحد أو شخص واحد على الحكم، فتؤدي إلى وضع المقدرات الاقتصادية بيد (النخبة) مما يؤدي أيضًا إلى نشوء مؤسسات اقتصادية غير حرة ويعيق الدخول إلى الأسواق، ويخلق في ذات الوقت طبقة تسيطر على اقتصاد البلاد وتسخره لخدمة مصالحها. ويذهب الكتاب أيضًا إلى تأكيد الفكرة بأنه بينما يبدو من الصعب أن تحدد المؤسسات الاقتصادية للدولة ما إذا كانت تلك الدولة فقيرة أو منتعشة اقتصادية، فإن السياسات والمؤسسات الاقتصادية بإمكانها أن تحدد أي نوع من المؤسسات الاقتصادية الموجودة في تلك الدولة، بحيث يمكن القول في المحصلة إن النظام السياسي القائم على الحكم الرشيد سوف يؤدي بشكل أوتوماتيكي إلى نظام اقتصادي ناجح، وأن من شأن هذا النظام أن يوفر الحوافز للمواطنين لاكتساب المهارات، والعمل بجدية وإخلاص، والتشجيع على الادخار، والأهم من ذلك كله: الإبداع. وعلى النقيض من ذلك كله، فإن النظام السياسي الاستبدادي يخدم مصالح فئة قليلة من الناس (النخب)، ويؤدي إلى نظام اقتصادي فاشل، وهو ما يؤدي بدوره إلى تقليص المشاركة السياسية لدى الأفراد، ويقلل بالتالي من الحوافز التي تدفعهم إلى تكوين ثروات يمكن أن تستولي عليها النخبة السياسية. ويؤكد المؤلفان أن هذا النوع من الاقتصاد يمكن أن يحقق النمو، لكنه نمو يقتصر على فترة زمنية لا يمكن أن تتخذ صفة الديمومة (الصين مثالًا، حيث يشكك المؤلفان في إمكانية أن يستمر نموها الاقتصادي لأجل بعيد). وهو ما يعني في المحصلة - كما ذكر توماس فريدمان في النيورك تايمز مؤخرًا- في استعراضه للكتاب - بأن الاختلاف الأساس بين الدول يكمن في شكل مؤسساتها السياسية والاقتصادية. أمثلة من الماضي والحاضر يقدم المؤلفان العديد من الأمثلة من جميع أنحاء العالم (أكثر من 30 دولة) للتدليل على صحة افتراضاتهما، مع التركيز على أسلوب المقارنة بين دولتين توأمين (مثل كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية) يقعان في نفس الموقع الجغرافي ويجمعهما حضارة وثقافة واحدة)، والطعن -في ذات الوقت- في افتراضات الآخرين حول أسباب صعود وازدهار بعض الأمم، وتحول البعض الآخر إلى أمم فاشلة، حيث يرى هذا الفريق الآخر أن العوامل الجغرافية والثقافية والجهل تشكل السبب الذي يؤدي إلى أن تصبح دولة ما فقيرة. أول الأمثلة التي يستعين بها المؤلف «النوجال» التي تقع إحداها في أريزونا (الولاياتالمتحدة) والأخرى في سونورا (في المكسيك) ولا يفصل بينهما سوى سور. فالأولى تتمتع بالرفاه والازدهار حيث يبلغ متوسط دخل الفرد 30 ألف دولار سنويًا، فيما يقل هذا المتوسط في الحالة الثانية إلى الثلث، وذلك إلى جانب الفروقات الأخرى في المستوى الثقافي والتعليمي. وكما في مثال الكوريتين، سنجد أن العامل الثقافي والجغرافي واحد، لكن الفارق في المستوى الاقتصادي والثقافي شاسع. وتصل المأساة إلى ذروتها في كوريا الشمالية التي يعيش شعبها في ظل ظروف قمع شديد للحريات، من أمثلته القوانين التي تحظر الزواج على الذكور لمن هم دون الثلاثين، فيما تحظر على النساء الزواج لمن هن دون ال28 من أعمارهن، ويصل الأمر إلى قمة المأساة بفرض النظام على النساء طريقة صف شعرهن. ويورد الكتاب مصر وتونس كمثالين للافتقار للحكم الرشيد الذي أدى إلى الركود الاقتصادي عندما استطاع شعبي البلدين أن يدركا أن الافتقار إلى الحكم الرشيد أدى إلى المشكلات الاقتصادية التي أشعلت الانتفاضة الشعبية، حيث تركزت مطالبات الجماهير على الإصلاح السياسي، عندما أدركوا أن تلك المشكلات لا يمكن حلها إلا بنزع التسلط السياسي من النخبة. وكمثال آخر، يقارن الكاتبان بين الأداء الجيد لدول أوروبا الشرقية بعد سقوط الشيوعية وبين دول ما بعد الاتحاد السوفيتي كجورجيا وأوزبكستان، والمقارنة بين كردستان وباقي العراق حيث يؤكدا أن الفرق في جميع تلك الحالات يكمن في شكل مؤسسات الدولة. جذور المشكلة المصرية بينما كان بعض الأكاديميين يرى أن سبب فقر مصر يعود أساسًا إلى العامل الطبوغرافي باعتبارها دولة شبه صحراوية، فإن البعض الآخر رأى أن فقر مصر يعود إلى العامل الديني الذي يعتبرونه سببًا للتخلف، فيما أن السبب الحقيقي ببساطة -في رأي المؤلفين- يكمن في أن قادة مصر عجزوا عن التوصل إلى الكيفية التي يمكن من خلالها توفير العوامل التي تؤدي إلى ازدهار الاقتصاد المصري. ويتساءل المؤلفان: هل الفقر في مصر غير قابل للتغيير.. أم أن بالإمكان استئصاله؟. ولماذا ثار المصريون ضد مبارك؟.. يجيب الكاتبان بأن الشعب المصري إنما ثار على مبارك بسبب الحكم الفاسد، وأن الشعب كان يدرك أن تدني مستوى التعليم وغيره من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية يعود أساسًا إلى الوضع السياسي المتردي. ويصل المؤلفان إلى نتيجة واضحة: إزاحة النخبة السياسية المتسلطة والفاسدة، وإعمال الشفافية والمحاسبة في الأجهزة الحكومية يعتبر أمر أساسي لجعل مصر دولة مزدهرةاقتصاديًا.( وهو ما تحاول مصر فعله الآن) وفي الملاحظة حول الفقر المزمن الذي ظلت تعاني منه مصر منذ فترة الحكم العثماني يعزي المؤلفان هذا الأمر إلى القبضة الحديدية التي حكمت بها مصر خلال تلك الفترة التي اتسمت بالافتقار للحكم الرشيد الذي أدى بدوره إلى التدهور الاقتصادي، حيث لاحظا أيضًا أن مصر خلال الحكم العثماني لم تعش عصر الثورة الصناعية. كما لاحظا أن مبارك حكم مصر بنفس الطريقة التي كانت تحكم فيها مصر من قبل الدولة العثمانية. بيد أنه في فترة الاحتلال البريطاني جلب البريطانيون معهم النظام المؤسساتي فتحقق بعض الرخاء الاقتصادي. لكن لم يدم ذلك الرخاء طويلًا في واقع الأمر، فسرعان ما عادت مصر إلى سيرتها الأولى، فأصبحت أكثر فقرًا، والدليل أن الهند التي حصلت على استقلالها عام 1947 كانت أكثر فقرًا من مصر بالرغم من أنها كانت ترزح أيضًا تحت الاحتلال البريطاني على مدى قرنين وليس 82 عامًا، إلا أنها أصبحت اليوم واحدة من أكثر اقتصاديات العالم نموًا والسبب أنها نعمت بالحكم الرشيد. وتحتل الهند اليوم المرتبة الأولى على مستوى العالم في الأهمية التي يوليها شعبها للتعليم. ويلاحظ المؤلفان أيضًا أن ثورة 1952 لم تكن كثورة 1688 في بريطانيا، فكل ما حدث في مصر أن ثورة 52 أوجدت نخبة سياسية جديدة حلت محل النخبة السابقة، بمعنى أن التركيبة الأساسية للمجتمع لم تتغير في واقع الأمر. الصين ليست استثناءً ويرى المؤلفان أن الصين ليست استثناءً كونها تجمع بين الحكم الاستبدادي (الشيوعي) والنمو الاقتصادي، لأن هذا النمو مؤقت ولا يمكن لهذه المعادلة السحرية أن تستمر على المديين المتوسط والطويل. حيث إن النمو الإقتصادي المستدام يتطلب ابتكارا والابتكار لا يمكن فصله عن «الهدم الخلاق» الذي يستبدل القديم بالجديد في مجال الإقتصاد. ويعتقدا أيضًا أنه ما لم تقم الصين بالانتقال إلى الاقتصاد القائم على «الهدم الخلاق»، فإن نموها الاقتصادي لن يستمرطويلًا.