إنها لغة مشتركة يصنعها الفقر والعوز والعجز، لغة مد اليد، حتى لو ابتعدت المسافات واختلفت الثقافات وتباينت الديانات والعرقيات واختلفت الأزياء واللغات. إلا أنه في النهاية تبقى إنسانية الإنسان الذي عندما يقهره الفقر والعجز يخرج الى الشارع ويتخير أي الأماكن التي من طريقها يكسب تعاطف البشر. هؤلاء الفقراء لا تخطئهم العين أمام المعابد المنتشرة في شوارع نيودلهي، للدرجة التي إذا لم تدقق النظر في المكان وفي الملبس لاعتقدت أن هؤلاء يجلسون أمام أحد مساجد القاهرة، استعطافاً للمارة وانتظاراً للصدقة، وكأن لغة التعاطف والرحمة لا تخص ديناً بعينه ولا تخص عقيدة مهما كانت سماوية أو أرضية، إنما هي طبيعة فطرية، فطر الله الانسان عليها، فلولاها ما تراحم الناس في ما بينهم. إن الكتابة عن مجتمع بثراء المجتمع الهندي لمحيرة، نظراً لما يمتلكه هذا المجتمع من ثراء ثقافي ومجتمعي كبير، يمثل أحد عناصر قوته. وهذه الميزة، إضافة الى عوامل أخرى، جعلت من الهند إحدى الدول التنموية الرائدة في العالم على رغم أن فقراءها يمثلون 33 في المئة من فقراء العالم. وهذا الثراء او التنوع كان له وجهه الآخر السلبي الذي يجهض في أحيان كثيرة نجاح التجربة الهندية ويشوه نتائجها التنموية، لكون أن الثقافات الفرعية لم تنصهر بالشكل الكامل في ثقافة الدولة الهندية الأم، ومن ثم كان هناك عدم استقرار اجتماعي وتمايز طبقي وتحالف ذوي المصالح الاقتصادية والمجتمعية، ما أدى إلى تهميش نسبة كبيرة من السكان وتضخمت تبعاً له نسبة الفقر بين السكان، فوفقاً لتقارير البنك الدولي، نجد أن الذين يعيشون تحت خط الفقر، أي دخلهم أقل من 1.25 دولار في اليوم، يقرب من 42 في المئة من عدد سكان الهند البالغ 1148 مليون نسمة، مع ملاحظة أن الذين يحصلون على أقل من دولارين في اليوم في الهند يصل عددهم الى 75.6 في المئة من إجمالي عدد السكان، أي أن ثلثي عدد سكان الهند فقراء. وهذه الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية جعلت ثمار التنمية والديموقراطية محصورة في النخبة بأشكالها المختلفة. والنظام السياسي الهندي يدرك، على مدار الستين سنة الماضية، هذا الخلل منذ البداية، وعمل على علاجه بأشكال مختلفة مؤسساتية وتنموية، من بينها السعي إلى إيجاد هذا الإطار العام لثقافة الدولة الهندية الأم، وقد نجحت في ذلك بالفعل الى درجة ما. ولكن ليس نجاح تجربة المجتمع الأميركي ذاته، على سبيل المثال، الذي هو بدوره يحتوى على هذا التعدد الثقافي والاثني، فالمجتمع الأميركي استطاع، قبل أن يستوعب هذه الثقافات والاثنيات، أن يخلق الأسس الثابتة لثقافة الدولة الأميركية الأم، والتي من طريقها استطاعت ان تحتضن وتصهر في داخلها كل هذه الثقافات الفرعية الأخرى من دون أن تتنافر معها، فأعطتها قوة ومناعة ودفعاً إلى الامام. وترجمت هذه الثقافة الأم في مؤسسات سياسية وتعليمية تعمل على تحقيق هذا التناغم ما بين الثقافات الفرعية وهذا الإطار الأكبر للثقافة. وعلى رغم أن الهند أكثر عراقة في تنوعها الثقافي، إلا أن ثقافتها الأم لم تكن بالقوة اللازمة لتنصهر في داخلها الثقافات والاثنيات التي تعيش في شبه القارة الهندية. وهذه الإشكالية ليست قاصرة على الهند، فهي مشكلة لكثير من دول العالم الثالث التي لم تستطع أن تبلور ثقافة وطنية واحدة عابرة للثقافات الفرعية. ومن هنا جاءت أهمية ثقافة الدولة الوطنية التي تأخذ على عاتقها أن تكون أداة تنموية لنهضة مجتمعاتها ليس بالقبضة الحديد وإنما برؤيتها الصائبة للحاضر والمستقبل، وبقدرتها على أن تكون بالفعل دولة العدالة والقانون لكل فئات المجتمع، مهما كان اختلاف دياناتهم وعرقياتهم، ولتترك المجتمع يتفاعل كل بحسب ثقافته في إطار ثقافة الوطن الواحد. وبالنسبة الى الهند، فهي قد حققت جزءاً من هذه الثقافة الوطنية، خصوصاً في ما يتعلق بالديموقراطية والعلمانية الهندية التي تخطت فيها الإثنيات والديانات. فالدستور الهندي كفل الحقوق لجميع المواطنين من دون تمييز بين فئة على أي أساس عرقي أو ديني أو اجتماعي فضلاً عن مبادئه الأساسية التي تساهم بتطبيقها في نجاح الديموقراطية الهندية، وكان على رأس هذه النجاحات قدرتها على تحييد الدين بعيداً من السياسة ومن ثم الحفاظ على الاستقرار لمجتمع مملوء بالديانات ومظاهر وطقوس العبادات المختلفة. إلا أن هذه الديموقراطية تظل متهمة بكونها ديموقراطية نخبة نتيجة تحالف النخبة السياسية والبيروقراطية مع أصحاب المصالح والفئات الاجتماعية القوية في المجتمع الهندي على حساب غالبية السكان الفقراء، الأمر الذي ترتب عليه تهميش القسم الأكبر من المجتمع في سبيل تحقيق مصالح هذه النخبة، ومن هنا تبقى الديموقراطية الهندية متهمة حتى لو أن ممارستها تتم بشفافية ونزاهة. انطلاقاً من متغير ديموقراطية النخبة نجد ملامح تأثير مختلفة داخل المجتمع الهندي، فعلى سبيل المثال، فالتعليم في الهند متقدم، إلا أن تأثيره لا يقتصر إلا على النخبة، فمع عدد السكان المرتفع تكون المنافسة والاختيار على المواقع النخبوية محدودة، وهو ما ظهر تأثيره في أن هناك نخبة علمية وبحثية في المجالات كل على مستوى عال من التميز. إلا أن الوجه الآخر ل «ديموقراطية النخبة الهندية» تظهر سلبياته بصورة أوضح في تناقضية الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصارخة بين فئات المجتمع. فالمسافة بين هند الأغنياء وهند الفقراء بسيطة للغاية، ففي أفخم وأنظف شوارع الهند تجد ملمح الاثنين، مظاهر الثراء ومظاهر الفقر، فالشارع في أرقى الأماكن يصبح مأوى لمن لا مأوى له، فخيمة صغيرة كفيلة بأن تضمن للفقير وأسرته مكاناً للعيش على حافة الشوارع. كما أن هذا لم يمنع شوارع نيودلهي، المتسعة والمنظمة والكثيرة والتي تنساب فيها حركة المرور بسلاسة على رغم المئة مليون فرد الذين يعيشون في المدينة، في أن تصبح مكاناً للبيع والشراء، فالحلاق يستطيع أن يفترشه ليكتسب رزقه من وراء مهنته، ولا يكلفه ذلك غير أدوات الحلاقة: كرسي من الخشب وظل شجرة وزبائنه الكثيرون بطبيعة الحال. والشارع لا يقتصر احتلاله على الحلاق فقط، فهناك أيضاً المطعم الشعبي، فلا تمر أمتار عدة إلا وتجد من يصنع طعاماً هندياً بسيطاً بأدوات وإمكانات متواضعة مع كثرة من الفقراء الملتفين حوله. ومثل هذا التناقض الموجود في الشارع يجعلك تشعر ان في الهند دولتين: دولة الأغنياء ودولة الفقراء، ولكل منهما امتداداتها في الشارع، فالقانون موجود ويطبق بحذافيره والفوضى أيضاً موجودة. هند الفقراء تعيش داخل رحم هند الأغنياء، فالأماكن الشعبية تنمو على حافة الحدائق والمتنزهات، بقاطنيها الذين تشعر عند رؤيتك لهم أنهم مسلوبو الإرادة يسيرون هائمين في الشوارع أو ينامون أمام البيوت. كل ذلك في الأماكن الشعبية مع كثرة المعابد ومظاهر التدين الموجودة فيها. عند رؤية هذا التناقض الموجود في شوارع نيودلهي تتأكد مقولة ان ما تشهده الهند من عملية تنمية هي ديموقراطية وتنمية مرتبطة بالأساس بالنخبة. فما دامت هناك درجة من النمو الاقتصادي والتقدم في عملية التنمية فهي متعلقة بالنخبة، ولا تمس الغالبية العظمى من السكان، وبالتالي تصبح عملية التنمية ناقصة ومشوهة، فلا أحد يلوم هؤلاء الذين يفترشون الشوارع بخيامهم، ولا أحد يلوم هؤلاء الذين جعلوا من الهواء الطلق محلات لبضاعتهم ومكاناً لمهنهم، وإنما المسؤولية هنا تقع على الدولة وعدم قدرتها على توزيع عوائد التنمية وإزالة الحواجز والفوارق الاجتماعية والتي أصبحت أمراً واقعاً في الثقافة الهندية، لدرجة أن مفردات البحث العلمي بين الباحثين أصبحت تعبر عن هذا التباين بين فئات المجتمع، فعلى سبيل المثال كلمة طبقة CASTE باتت من الكلمات المألوفة في التحليل لديهم ويتخذونها متغيراً في تحليل عملية التنمية، فمفهوم الطبقة هذا متعدد الأبعاد قد تدخل فيه العوامل الدينية أو عوامل اقتصادية أو عوامل اجتماعية. فالتمايز الاجتماعي هنا أسبابه متنوعة ومتداخلة في الوقت نفسه، وهو الذي أدى إلى انعدام العدالة. واذا كان الدستور الهندي ضمن تحقيق المساواة بين الهنود، أياً كانت دياناتهم، إلا أن عدد السكان الكبير ونسبة الفقر المرتفعة كانت معوقاتهما أكبر من إنجازات التنمية وعوائدها التي وجدت طريقها إلى النخبة الاقتصادية والبيروقراطية فقط من دون معظم السكان. وهو أمر تدركه الحكومة الهندية وتحاول أن تحل إشكالية الفقر وهذا التمايز والتفاوت الطبقي بين المناطق والأقاليم المختلفة مع الحفاظ على الإنجازات السياسية والدستورية التي حققتها الديموقراطية الهندية في إطار المشكلات المجتمعية الموجودة. * كاتب مصري.