اليوم- يا صديقي- تحل ذكرى رحيلك ويحل معها في النفس ذلك الضيق الذي يعتري مسارب النفس ويتمدد في دواخلها دون أن تكون قادرة على طرده أو التخلص منه فعلة النفس أو دواؤها هي أصعب من داء الجسد واعتلاله، ولقد حار من قبل الفلاسفة والحكماء في كنه ذلك الداء وتلك العلة وأجدني - اليوم - أكثر ما أكون تذكرًا لشخصك الذي وهب من الخصال والمناقب ما جعله قريبًا من نفوس من اقتربو منه أو التصقوا به في دورب هذه الحياة، فلقد كنت سخيًا بما تملكه من متاع هذه الدنيا وهو ذلك الزمن البعيد يعد قليلا لمن يملكه وكثيرًا عند من ينالهم حظ منه، وكنت تفتح دارك أمام القوم الذين أضحى بعضهم- بعد زمن- في رغد من العيش وثرائه فتناسوا ذلك الزمن الصعب ونسوا معه من كان يؤثر أن ينام طاويًا على أن يرى من حوله يعانون من شظف العيش فيقدمهم على نفسه ولم أجد في نفسك غضاضة على هذا البعض بعد أن أضحيت بعيدًا عن الأعين نائيًا عن مجالس القوم، ومكتفيًا بالانزواء في دارك وكان جليسك ذكر الله الذي زكيت به تلك النفس التي تعلقت بعوالم الملكوت وتغذت من منابع الحب والتسامح حتى أضحت المفردة الأخيرة رديفًا لاسمك بين الناس، وكنت تسعد بسماعها من ألسنة الناس الذين ربما اختلفوا في كل شيء واتفقوا على أنك سيد قومه الذي لا يبحث عن غاية من وراء إحسانه ولا يجد في طلب شكر العباد وثنائهم بمقدار ما كنت تتطلع للثواب من خالق العباد الذي أن اصطفى من عباده نفرًا جعل قضاء حوائج العباد على أيديهم وكنت بلا ريب واحدًا منهم ولطالما يا صديقي طرقت في سكون الليل وهجعة الأعين باب دارك فإذا صوتك يجيبني من أعلى الدار مرحبًا وكنت أبوح لك بما أستره عن الآخرين من آلام تؤرق النفس وتضني الجوارح، فأجدك بما وهبك الله من خصال قادرًا على أن تبدد عن النفس وحشة تسكنها منذ أن تفتحت الأعين على هذه الحياة وكنت أشكو إليك قسوة البعض وظلمهم فكنت تنأى بي - ما استطعت - عن شحن دواخل النفس بما يدخل في باب الحقد أو الضغينة وكنت تقول لي: هامسًا إذا ما أتوا يومًا في قبضة يديك فأصفح عنهم ولا تجارهم في تلك السلوكيات التي هي من طبائع النفس اللوامة. لم تكن يا صديقي فقط رفيقًا وإن كنت خير الرفقاء وأنقاهم، ولم تكن فقط صديقًا وإن كنت الأكثر دراية ومعرفة بمقتضياتها، ولكنك في واقع الأمر وجوهره ذلك الأب الروحي الذي وهبه الله فطرة وطبيعة من الخصال ما يجعله بمؤازرة من رب العباد قادرًا على تهذيب ما اعوج من السلوك وانحرف من المشاعر والأحاسيس ولا يذهبن الظن بالبعض أنك كنت تحمل ما يتباهى به القوم من شهادات ويفتخرون به من براءات، بل كنت واحدًا من أولئك النفر الذين تنكرهم الأرض وتتعرف عليهم عوالم الملكوت لقد كنت إنسانًا بكل ما تحمله هذه المفردة من معانٍ سامية وقيم نبيلة، وكنت كالشجرة التي يرميها البعض بالحجارة جهلاً فإذا هي تكافهئم عوضًا عن الرد بالمثل بأن تمنحهم من عطائها ثمرًا يانعًا، لعله يفلح في إصلاح ما غلظ وفسد من خصالهم.