في المقال السابق ذكرنا بإيجاز أثر اللغة على الوعي وصناعة المفاهيم التي ربما تعيق حركة الذهن فيما حوله من النتاج البشري، وذكرت عدة عبارات مجملة شائعة في الوسط الشرعي مثالا على ذلك.. وفيما يلي سأكشف للقارئ عن سوء تعاملنا مع مثل تلك العبارات بالوقوف مع عبارة واحدة مما سبق، نُحللها ونفككها مجردة عن سياقها، ثم نعود لسياقها الذي وردت فيه؛ لنعرف مدى العجلة في الفهم، والخطأ في عدم مراعاة السياق، وهذه العبارة هي: "نضج واحترق" وسأتناولها في مقامين: المقام الأول: تجريدها من سياقها: أوّل من نقل هذه العبارة (حسب معرفتي) هو الزركشي (ت:794ه) في قواعده الفقهية، يقول: "كان بعض المشايخ يقول: العلوم ثلاثة: 1. علم نضج وما احترق وهو علم الأصول والنحو. 2. وعلم لا نضج ولا احترق وهو علم البيان والتفسير. 3. وعلم نضج واحترق، وهو علم الفقه والحديث". المنثور في القواعد الفقهية (1/72) أولا: القائل مجهول، ونقلها ليس دليلا على صحتها كما يَزعم البعض. ثانيا: ما المراد ب"نضج واحترق"، هل يعني الخدمة والتأليف مطلقا؟ أم يعني خدمة الفن المعيّن بالنسبة لغيره؟ أم يريد بذلك اكتمال قواعد العلم ومواده؟ أم يريد به بيان العلم ووضوحه؟ ثالثا: هل التقسيم صحيح في ذاته ومناسب وحصري تنزلا مع هذا القائل المجهول!! رابعا: أين الأسس التي اعتمدها هذا المجهول في هذا التقسيم، وهذه الأحكام المطلقة العائمة!! خامسا: ما الذي جعل هذا العلم في هذا المقام وذاك في مقام آخر؛ فمثلا: لماذا لم يحكم على التفسير بالنضج والاحتراق مع أنه حكم بذلك على الحديث؟! سادسا: هل يمكن أن يقال عن علم مبناه على الفهم والاستنباط الأبدي كالفقه مثلا أنه احترق ونضج؟! ثامنا: لكل علم أصول وفروع، وهو لم يُفرق! لماذا قال: عن الفقه والحديث أنهما نضجا واحترقا، فذلك يشمل الأصول والفروع! لأنه لم يبين مراده! ولم يقل ذلك: عن التفسير الذي ذكر ابن تيمية في مقدمته أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يمت حتى بينه كاملا!! لماذا لم يقل عنه نضج واحترق!! ولماذا لم يقل عن الأصول أنه احترق؛ لأنه في الجملة أصول وثوابت؛ ولأن الشاطبي ذكر في موافقاته أن أصول الفقه قطعية؟! كيف لم تحترق الأصول عنده ولا التفسير، واحترق عنده الفقه والحديث؟! تاسعا: أين العبارة الأخرى السائرة: "كم ترك الأول للآخر" فإذا كانت المسألة عبارات مرسلة بلا تعليل! فكيف نوفق بين هاتين العبارتين "نضج واحترق"و"كم ترك الأول للآخر"؟! وفي هذا السياق يقول الألباني: قولهم في المثل السائر: (كم ترك الأول للآخر) يبطل قول بعض المقلدة (علم الحديث نضج واحترق!) انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (12/511). المقام الثاني: قراءتها في سياقها: مما ابتُليَ به المشهد الثقافي المعاصر جزّ العبارات من سياقها، والتقاطها من بين أخواتها اللاتي يتضح بهن المعنى ويكتمل بمجموعها دون آحادها، فمن اقتبس كلمة أو كلمتين من كاتب أو باحث دون مراعاة سياقها كان كمن قرأ قوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّين) وسكتَ ولم يُكملْ، وفكرة السياق عموما واعتبارها في المعنى والكشف عن المراد لها شأن عظيم في تراثنا العلمي؛ لهذا لا ينبغي للباحث إغفالها وعدم مراعاتها. وهذه العبارة: "نضج واحترق" اقتطعت من سياقها، واشتُهر لها عند البعض معنى خاص غارق في السلبية بمعزل عن مضمونها الذي أتت فيه، فعند فئام من المحصلين للعلم أن الفن الذي قيل عنه: نضج واحترق كالحديث مثلا يُشاع أنه علم انتهى فيه البحث، ولا مجال للإضافة فيه بأي وجه من الوجوه، وعليه فالباحث حين يأتي لمثل هذه العلم يصطحب معه هذه العبارة سيكون لمفهوم التقليد دور كبير في تشكيل وعيه وفكره!! وبالرجوع لسياق العبارة في مصدرها السابق نجد غير هذا المعنى، فالزركشي أورد العبارة في سياق ذكره لأنواع الفقه وتعداد المعاني التي يفيدها، حتى وصل به المقام للنوع العاشر، فيقول: (1/71) "العاشر: معرفة الضوابط التي تجمع جموعا، والقواعد التي تُردُّ إليها أصولا وفروعا، وهذا أنفعها وأعمها، وأكملها وأتمها، وبه يرتقي الفقيه إلى الاستعداد لمراتب الاجتهاد، وهو أصول الفقه على الحقيقة". فقس هذا المعنى الذي ذكره الزركشي للفقه مع معنى العبارة تجد أن فقه الفروع خاصة ليس فيه ما يمكن اعتبار نضوجه واحتراقه على التمام (كما في العبارة، أو ما لا يمكن الإضافة فيه كما هو سائد!)، بل إن الكلمات التي استخدمها للتعبير؛ دلالاتها تُضاد المعنى السلبي للعبارة كقوله: الضوابط.. والقواعد.. والاجتهاد.. وأصول الفقه.. فأنت تلحظ أنّ هذه المفردات كالآلة والأداة التي تُحفِّز الذهن وتضبط حركته لتحقيق الاجتهاد واستنباط الأحكام، والإتيان بالجديد من الآراء دون توقف، وهذا من أتمّ المعاني للفقه وأنفعها، فكيف يقال: أنه نضج واحترق ولا يمكن الإتيان فيه بجديد، وقل مثل ذلك في علوم الحديث وغيرها؟! ثم يُعْقب الزركشي حديثه السابق بقوله: فائدة.. ويذكر العبارة (نضج واحترق) بتمامها، ويقول بعدها مؤكِّدًا على معنى الإضافة والإبداع: (1/72) ".. قال صاحب الأحوذي: ولا ينبغي لحصيف أن يتصدى إلى تصنيف أن يعدل عن غرضين: إما أن يخترع معنى، وإما أن يبتدع وضعا ومبنى، وما سوى هذين الوجهين فهو تسويد الورق والتحلي بحلية السرق". فما قبل العبارة وما بعدها يُخالف القول المتداول الذي تُفهم به، وهذا ما يعني على الأقل إعادة النظر فيها وفي معناها، بل يمكن أن يقال للزركشي بناء على المعنى المستفيض لها: كيف ساغ لك أن تدعوَ للإبداع والاختراع في البحث عموما وقد نوّمتَ العقل وحقنتَ أوردته ب"نضج واحترق"؟! فالمعنى المشهور للعبارة يحتاج للمراجعة والنظر، ولا يضير أحدا أن يكون لهذه العبارة معنى صحيح عند الزركشي أو غيره، ولكن مما لا شك فيه بطلان المعنى الذي يشاع لها بناء على هذا التقرير، وهذا غاية ما يراد إيصاله هنا، مع الإشارة لما يمكن أن يحدثه عدم التدقيق والرجوع للأصول ومراعاة السياق من سوء الفهم والخطأ في التقرير. وبعد، فالمحصّل أن من هذه العبارات التي شاعت على الألسنة ما هو متهافت ومتناقض، غير مبني على دليل ولا برهان ولا واقع، بل جلها مرسل هكذا دون محاولة الرجوع لمنشئها وأصلها، ولو لم تأخذ هذه العبارة حجما كبيرا في الوسط الشرعي وتؤثر فيه، ما ذكرها أحد، ولا احتاج للرد عليها وبيان ضعفها. وفي الختام لا أتمنى أن يقال: عقولنا هي التي احترقت ونضجت فلم تعد قادرة على البناء المعرفي الفاعل، ولا على البحث العلمي المجرد!! والحمد لله رب العالمين من قبل ومن بعد. باحث وكاتب في الدراسات الشرعية [email protected] m_alansary1@