تغيّرت مع الطفرة النفطية الأولى في أوائل ومنتصف السبعينيات الميلادية كثير من الأشياء في المجتمع السعودي. فقد طرأت كثير من التحوّلات في ثقافة المجتمع، وقيمه، وسلوك أبنائه بدرجة كبيرة وعميقة ومتشعبة، وتحتاج إلى دراسات وبحوث اجتماعية واقتصادية من قبل المختصين في مختلف التخصصات. لكن قبل ذلك وبعده تغيّرت كثير من مفاهيم الحياة التي تربينا عليها على مر سنوات طويلة، وقنع أكثرنا بها. لكن، وبشكل عام، كان الناس فرحين.. وفرحنا معهم، وكان الناس مستبشرين.. واستبشرنا معهم ولا نزال. *** في عام 1973م كان سعر برميل النفط أقل من ثلاثة دولارات أمريكية، وكان الإنتاج لا يتجاوز أربعة ملايين برميل. وفي عام 1974، بدأت أسعار النفط العالمية تتصاعد بوتيرة كبيرة، بعد أن أشعلت حرب رمضان/ أكتوبر 1973م شرارته الأولى، تزايدت علي إثره كمية الإنتاج، حتى وصل سعر برميل النفط إلى رقم قياسي بلغ آنذاك 42 دولارًا، ووصل إنتاج المملكة في عام 1982 إلي مستوى عشرة ملايين برميل في اليوم الواحد، وهو ما أدّى إلى زيادة إيرادات الدولة، وبالتالي قدرتها على الإنفاق. كانت طفرة كبيرة، كما اصطُلح على تسميتها، تميّزت برؤية واضحة مُحدَّدة أسهمت في وضع بنية تحتية قوية، وانعكس تأثيرها على الناس، نقلت كثيرًا منهم من العوز إلى الغنى، ومن ضيق الحاجة إلى سعة الرفاهية، وتركت بصمتها على كل شيء اجتماعيًّا ودينيًّا وسياسيًّا. *** عندما بدأت تلك الطفرة بالأفول.. وحدث ما سمي بالجلطة النفطية شعر الجميع بأنها انتهت وأصبحت جزءًا من الذكرى في الوعي العام. وفي هذه المرحلة انهارت أسعار النفط انهيارًا كبيرًا هبط فيه سعر برميل النفط من 42 دولارًا إلى سبعة أو ثمانية دولارات، وتراجع الإنتاج إلى الثلث أو ما هو قريب منه، واستمر هذا الحال حتى أواخر عام 1998، أي حوالى 16 عامًا، تعرّضت المملكة خلالها إلى تحمل أعباء مالية كبيرة، فاقمت من حدّتها ما تحملته المملكة من إنفاق خلال حرب الخليج الأولى التي وقفت فيها مع العراق، ثم ما حملته من أعباء أثناء غزو صدام للكويت. وكانت نهايات الثمانينيات، مرورًا بالتسعينيات، إلى بداية الألفية الجديدة مرحلة التكيف مع نهاية عصر الطفرة النفطية. لكن ما يُحمد لهذه الطفرة هو أنها لم تُسهم فقط في وضع بنية تحتية قوية، استطاعت أن تصمد أكثر من ثلاثة عقود، وإنما أسست بنية الإنسان السعودي الحديث. لكنها تجربة لا تخلو من أخطاء، ننتظر من الجيل الحالي أن يُصحّحها، ويُرمِّم ما حدث فيها من أخطاء. * نافذة صغيرة: (إن تقييم "الطفرة الأولى" لن يُفيد إن لم يكن الهدف منه تفادي أخطاء الماضي، والتعامل مع الطفرة الحالية بمهنية، وبما يعظم الأرباح ويُحقِّق الوفورات للأجيال القادمة، بحيث تكون التنمية مستدامة والنمو الاقتصادي المتحقق قادرًا على البقاء والاستمرار).. د. عبدالعزيز داغستاني. [email protected]