فها هو رمضان ارتحل وانقضت لياليه المباركة ومضت أيامه العامرة، ذلك الشهر الذي أوى ظمأ العطشى، وشفى صدور المؤمنين، وأعاد الحياة إلى الصحة وإلى الأبدان، وعادت به النفوس إلى باريها، فسبحان الله، نشط الكثير في العبادات، فاهتموا بأداء الفرائض، وتقرّبوا إلى الله بالنوافل، قرأوا كتاب الله، وابتهلوا إليه بالدعاء، وتصدّقوا على الفقراء والمساكين، واعتمر منهم من اعتمر، واعتكف منهم في بيوت الله من اعتكف، وكل ذلك فهم يرجون القبول من الله، فاللهم تقبل منا ومن المسلمين أجمعين. ويعلم الله أني تعمدتُ تأخير المقال بعد رمضان بأسبوع لنرى ونشعر بالفرق بين حالنا في رمضان وحالنا هذه الأيام، وكيف سيكون يا ترى بعد فترة من الزمن، نعم رمضان هذا العزيز الذي غادرنا، كان فرصة ثمينة لاحتْ لمن أحسن استغلاله، لإحداث تغيير إيجابي في حياته، ومع وداعنا له، وتلمُّسنا لحصول تغيير في بعض جوانب حياتنا، كان لزامًا أن يكون هذا التغيير مستمرًّا لا منقطعًا؛ لتكون نتيجته هي الباقيةَ حتى بعد رمضان، وهذا هو الجانب الأهم من مراحل التغيير، والذي يحتاج إلى بذْل الجهد للاستمرار في ثباته. فسبحان الله لمَّا سُئِل بشر الحافي -رحمه الله- عن أناس يتعبّدون في رمضان ويجتهدون، فإذا انسلخ رمضانُ تركوا، قال: بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان، فأقول لا تكن رمضانيًا وكن ربانيا، لا تكن عبدًا لرمضان وكن عبدًا لرب رمضان، فرب رمضان هو رب باقي الشهور، فلا تترك القرآن حتى لو قرأت صفحتين في اليوم، ولا تترك القيام حتى ولو صليت ثلاث ركعات يوميًا، ولا تترك الذكر حتى ولو أذكار الصباح والمساء, ولا تترك الصيام حتى ولو الثلاث البيض من كل شهر، وإياك أن تترك صلاة الفروض في المسجد، بعد أن داومت عليها طوال رمضان، فهذه الأعمال أقل ما تفعله، فاجتهد أكثر، ولو بالمداومة بالقليل، فَقلِيلٌ دَائِمٌ خَيرٌ مِن كَثيرٍ مُنقَطِعْ. فإذًا نحن لا نطالب الناس أن تكون كما كانوا في رمضان، ولكن فلنُسدِّد ونُقارب. وأخيرًا، وإذا كُنّا قد ودّعنا شهر رمضان، فإن المؤمن لن يُودّع الطاعة والعبادة ما دام في صدره قوة من الشحنات الإيمانية، أما أولئك الذين يهجرون المساجد والطاعات مع مطلع العيد، فبئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان، والله جل وعلا يقول: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له).. (الأنعام: 162)، فالحياة كلها يجب أن تكون لله في جميع الأحوال والأوقات والظروف. فاللهم تقبّل منّا صيامنا واجعله شاهدًا لنا لا علينا، واجزي اللهم حكومة خادم الحرمين الشريفين كل خير لما يبذلونه من أعمال لخدمة الإسلام والمسلمين آمين يا رب العالمين. عبدالرحمن عبدالحفيظ منشي - رابغ