كنا دومًا نحرص كل الحرص على ألا نبالغ في أحكام نخشى فيما بعد أن تصبح سببًا في إطلاق مصطلحات، لها مدلولاتها الخاصة، على مَن لا تنطبق عليهم ولو اشتد حبّنا لهم، فالقداسة كما نعلم لغة تعني التنزيه، كما ورد في لسان العرب: التقديس تنزيه الله عز وجل، وفي التهذيب: القُدْسُ: تنزيه الله تعالى هو المتقدس والقدوس المقدس، وفي التنزيل قوله تعالى: (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)، والقدوس من أسماء الله تعالى: أي هو المنزه عن كل النقائص، بل له الكمال المطلق، والنصوص القرآنية الوارد بها لفظ: القُدْسُ: وتقدّس، والقُدُوس، فإنما عنى بها الله عز وجل، ثم جاء فيها تسمية الواد الذي طهره الله ليكلم فيه نبيه موسى عليه السلام بأنه المقدس فقال ربنا عز وجل: (إنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى) وتسمية الأرض التي بارك الله حولها بالأرض المقدسة في قوله تعالى: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ)، فالقداسة في الأصل مصطلح عُني به الطهارة وتنزيه المقدس عن النقائص، لهذا فمن أسماء الله تعالى: القُدُوس، ولا يصح أن يمنح أحد القداسة لأحد من الخلق إلاّ بإذن من الله، ومشروعية بنص صريح، فالله عز وجل مقدس لا يعتريه نقص ولا شك، وآيات كتابه كذلك، وما جاء به سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- من ربه هو مقدس لا شك، لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى، فما أمر به أو نهى عنه فله القداسة ووجب امتثاله، لا يختلف على ذلك أحد من المسلمين، أمّا أن يُطلق لفظ القداسة أو التقديس على أحد من الخلق مهما علا شأنه، فلا أصل لذلك في الإسلام البتة. فدعوى القداسة لصحابة سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع ما لهم من الفضل والتكريم من الله ومن خلقه أمر غير مقبول، وقربهم من الله لطاعتهم معنى لا يُجْزَم به إلا من خلال ما كان لهم من الأعمال، أو شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأحدهم بذلك أو بالجنة، وهم ولا شك يتفاوتون في هذا، وليسوا على درجة واحدة فيه، أما أنهم في درجة من الإيمان هي نوع من الاصطفاء، فتلك دعوى لن يجد صاحبها نصًا من كتاب، أو سنة، أو إجماع عليها، فالاصطفاء معناه: الاجتباء والمجتبى هو المصطفى، وهو قد ورد في القرآن الكريم بهذا المعنى، وخص به من الخلق الأنبياء والرسل، عليهم الصلوات والسلام، ولم ترد لغيرهم من الخلق، ومن ادّعى الاصطفاء لغيرهم من الخلق ولو كانوا أولياء صالحين فعليه أن يقيم الدليل الذي لا يعتريه الشك على ذلك، وإن قيلت في حق غيرهم فلعلها على سبيل المجاز لا الحقيقة، فلا أحد يستطيع أن يجزم بأن الله اصطفى من الخلق أحدًا دون نص، والاصطفاء أحد معنيين الأول: من الصفا والصفو، ويعني الخلوص من الكدر، والثاني من الاصطفاء بمعنى الاختيار، وكتاب ربنا إنما تحدث عن المصطفين الأخيار من رسله وأنبيائه بهذين المعنيين، ولم يكونا فيه لغيرهم أبدًا، ومن لديه فضل علم فعليه أن يخبرنا به، وحبنا لصحابة سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يبلغ المدى الأقصى، فلا نقبل من أحد أن ينالهم بسوء، فكيف بمن يعتقد نفاقهم أو كفرهم أو وقوعهم في شيء من كبائر الذنوب، حتى من وقع منهم في ذنب، ثم تاب عنه، لا نتحدث عن ذنبه ذاك، وقد صاحب سيد الخلق وجالسه ونظر بعينيه إلى طلعته البهية، فهو عندنا من الأخيار ولا شك، ولكننا أيضًا لا نرضى أن يدّعي لهم أحد ممّا ليس لهم حق فيه، فيدّ عي لهم القداسة والاصطفاء، حتى ولو كان دافعه إلى ذلك إثبات أمر لهم لا دليل نصي عليه، مثل تمثيلهم أو تشخيصهم في المسرحيات والمسلسلات والأفلام، ليحاول إثبات دعوى لا يثبتها نص بما لم يُثبت بنصٍ أو إجماع أصلا، فيدّعي للصحابة قداسة واصطفاء، فاللهم ارضَ عن صحابة رسولك محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم- واجعلهم عندك في عليين، هم السابقون بكل فضيلة، هم من جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الدعوة إليك، وصبروا وصابروا، أحبوا سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأحبهم، نكف ألسنتنا عما جرى بينهم من اختلاف، أو وقع في زمانهم من فتن، وكل ذلك لا يجعلنا ندّعي لهم ما ليس لهم؛ لنرد على من أساءوا إليهم، فمثل هذا خطأ في الرأي. اللهم اغفر لهم، وألحقنا بهم غير خزايا ولا مفتونين، هو ما نرجو، والله ولي التوفيق. ص. ب: 35485 جدة 21488 فاكس: 6407043 [email protected] [email protected]