الحمد لله رب العالمين الذي امتن علينا ببعثة سيد الأنبياء والمرسلين، وأفضل خلق الله أجمعين، صاحب اللواء والحوض والشفاعة والمقام المحمود يوم الدين، بجَّله ربه وعظَّمه وأشاد بفضله وأخذ العهد على النبيين والمرسلين إن بُعث وهم أحياء أن يتبعوه ويكونوا أفرادًا من أمته صلى الله عليه وآله وسلم، وأخذ العهد عليهم جميعا أن يأخذوا العهد على أممهم أن يتبعوه إن بعث وهم أحياء، وأمر بتبجيله وتعظيمه وتوقيره غاية التوقير والتعظيم فقال «لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزِّروه وتوقِّروه وتسبحوه بكرة وأصيلا» فالتسبيح لله تعالى، والتعزير- أي النصرة- والتوقير لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، بل هدد الذين يرفعون أصواتهم فوق صوته بإحباط العمل ولو لم يقصدوا عدم توقيره، ولو كانوا ما كانوا في التقوى والفضل: «يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون». وهذا الوعيد باق بعد موته، فمن يرفع صوته متعمدا عند قبره الشريف متوعَّدٌ بإحباط عمله؛ لأن حرمته ميتا كحرمته حيا صلى الله عليه وسلم، كما هو إجماع العلماء، ويدل عليه أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قال للرجلين اللذين رفعا أصواتهما في المسجد وليس عند القبر وهما من أهل الطائف: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا. يعني: لولا أنهما غريبان من أهل الطائف ولا يعرفان هذا الحكم. وحرَّم سبحانه وتعالى مناداته باسمه فقال: «لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم لبعض» فيحرم إجماعا أن يقال له صلى الله عليه وسلم: يا محمد. بل يجب أن يقال: يا رسول الله، يا نبي الله. صلى الله عليه وآله وسلم. بل إن ربه سبحانه وتعالى لم يناده في القرآن باسمه بل ناداه بيا أيها النبي. يا أيها الرسول. مع أنه نادى غيره من النبيين والمرسلين بأسمائهم، وهذا فيه من التبجيل والتوقير من الرب سبحانه ما لا يدرك العقل البشري مداه، فتعظيم الرب سبحانه ليس كباقي التعظيم، ومبالغة الله تعالى ليس كمبالغة غيره جل جلاله وتقدست أسماؤه. فكل شيء فيه صلى الله عليه وسلم موقَّر مقدس مبجل محترم: ذاته الشريفة الزاكية أفضل الذوات على الإطلاق، وأخلاقه العظيمة الهائلة التي تمثل كمالَ اصطفاء الله تعالى، وأسماؤه العظيمة التي اختارها له ربه سبحانه وتعالى موقرة مبجلة معظمة؛ لأنها تدل على شرف وكمالِ مسماها، واصطفاءِ الله تعالى له في ذاته وصفاته وأسمائه صلى الله عليه وآله وسلم، فكما حصل الاصطفاء في الذات والصفات، حصل الاصطفاء في الأسماء والصورة الظاهرة الكاملة المكمَّلة من كل نقص وعيب صلى الله عليه وآله وسلم. فمحمد وأحمد والماحي والحاشِر والعاقِب والمقفِّي أسماءٌ له اختارها الله تعالى واصطفاه بها، واصطفاه بكنيته أبو القاسم صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولذا نهى حبيبنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن التسمي باسمه مع التكني بكنيته حتى لا يقع التشبه من كل وجه، فهذه خصوصية له صلى الله عليه وآله وسلم اصطفى الله له هذه الأسماء مع الكنية الشريفة، أما مجرد التسمي باسمه فالجمهور على استحبابه رغبةً في نيل بركات هذا الاسم العظيم للمسمَّى، إلا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فقد ذهب إلى حرمة التسمي باسم محمد، حتى لا يهان هذا الاسم فيُسب الشخص المسمى بذلك الاسم، فيهان اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكيف لو رأى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه الإهانة الحقيقية لهذا الاسم المبجَّل كما هو حاصل بيننا ونراه على مسمع منا ولا حراك ولا إنكار ولا استغراب ولا استفظاع!!! فقد سئل بعض المفتين هداه الله تعالى إلى الحق: ما حكم مناداة الشخص المجهول الاسم بمحمد؟ فقال: لا بأس. فقال السائل: ولو كان كافرا؟ فقال: ولو كان كافرا. وهذه فتوى سمعتها بأذني ولم يروها لي أحد. فهذا الاسم عند هذا المفتي ليس فيه قداسة ولا اصطفاء، فلا فرق بينه وبين زيد وعمرو وصخر وأسد ونحوها، فما المانع أن ننادي الشخص باسم محمد ولو كان كافرا؛ لأنه لا خصوصية لهذا الاسم. ولو سُلِّم هذا الجهل والجفاء الظاهر، وسوء الأدب المخجل: لكان من حق نبينا صلى الله عليه وسلم أن نبجله فنمتنع عن تسمية أي شخص مجهول بمحمد؛ تعظيما لاسم حبيبنا وسيدنا وقدوتنا وقائدنا صلى الله عليه وآله وسلم، والذي يمثل جزءا من شهادة التوحيد، وهي تمثل غاية القداسة لنا كمسلمين، لا سيما إذا كان المنادَى لا يمثل جلالة هذا الاسم كفاسق أو كافر أو جاهل وضيع أو خادم مبتذل. أرأيتَ ملكا من ملوك الأرض هل يرضى من شعبه أن يجعلوا اسمه حرف نداء لكل وضيع أو مبتذل، حتى يُنادَى باسمه الزبال والكناس وصانع الأحذية وسقط الخلق!! ألا يَعُدُّ ذلك استخفافا عظيما بمقامه ومنزلته!! فيا سبحان الله كيف وصل الجفاءُ بنا وسوءُ الأدب مبلغا عظيما، وحتى أصبحنا لا نحس بالجفاءِ الظاهر وسوءِ الأدب القبيح الذي لا يرضاه بعضنا لنفسه، فقد وصل الحال ببعض السعوديين إذا ناداه شخص بمحمد لا يرد عليه ويستنكف عن الرد؛ لأنه يعتبر هذه المناداة تدل على أنه في طبقة الخدم غير السعوديين الذين يُنادَون عادةً بمحمد من قبل عامة السعوديين. فانظر كيف وصل الحال بنا في إهانة اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن بعضنا يستنكف من مناداته بمحمد؛ لأن هذا الاسم يدل على طبقة الخدم!!! إذ أكثر السعوديين اليوم ينادون الخادم أو العامل المجهول الاسم بمحمد. أما السعودي المجهول الاسم فينادونه: يا طيب يا أخوي يا حبيب، ونحوها من ألفاظ النداء؛ لأن اسم محمد أصبح علامة على الخدم. ولن أنسى من عشر سنوات تقريبا يوما خرجت فيه من المسجد وإذ بشخص سعودي ينادي عامل النظافة وهو يكنس الأرض: يا محمد يا محمد. ووالله لقد أصابتني قشعريرة ودهشة شديدة، من شدة الفاجعة التي تطرق أذني، فمحمد اسم عادي ليس له أي قداسة ولا تعظيم، فيبتذل لعامل النظافة!!! ثم انتشر هذا المنكر الفظيع انتشارا هائلا حتى أصبحنا نسمع صباح مساء مناداة عامة العمال بمختلف المهن الوضيعة: يا محمد يا محمد، فأين مكانة النبوة!! وأين اصطفاء الرسالة!! وأين خلة رب العالمين له صلى الله عليه وآله وسلم!! وأين اجتباؤه بمرتبة المحبة والرؤية!! وأين التفضيل على أهل السماء وأهل الأرض، بل على كل خلق الله أجمعين!! كل هذه لا تقدِّس هذا الاسم الأوحد لأفضل خلق الله تعالى أجمعين عند هذا المفتي وأمثاله من عامة الجفاة، لا يقولن قائل: إن هؤلاء الذين ينادون الخدمَ باسم محمد لا يقصدون إهانة الاسم، بل يقصدون تكريم المنادَى واحترامَه بهذا الاسم المبجل _ لأنا نقول: تكريم المنادَى بما يستحقه من الأسماء أو الأوصاف لا بما لا ينطبق عليه، ولا بما يلزم منه الاستخفافُ بمقام مَنْ كان منطبقا عليه، وإلا لو جوزنا هذا التكريم المزعوم بالإطلاق لصح لنا أن ننادي المجهول مِنْ خادم وعامل: بالملك، أو بصاحب السمو، أو بمعالي الوزير، أو بسماحة الشيخ، أو الدكتور، إلى غير ذلك من الألقاب المحترمة التي لا يليق إطلاقها إلا على أربابها، وإطلاقها على غيرهم هزءٌ باللقب واستخفافٌ بأربابه. فإذا كان هذا حالَ ألقاب البشر الاحترامَ والتوقيرَ وعدمَ الاستخفاف بها، فما الظن بلقبٍ اختاره ربُّ العالمين بنفسه لأحب مخلوق عنده، جل جلاله وتقدست أسماؤه، وخصه من بين سائر أحبابه وأنبيائه بذلك اللقب وذلك الاسم، ألا يستحق ذلك اللقب التوقير والتنزيه عن كل صور الاستخفاف والتحقير؟! لا شك أن الجواب: من باب أولى، فألقاب جميع الأنبياء سواءٌ أسماءهم أو صفاتهم ليست كغيرهم، فكيف بالرسل صلوات الله عليهم أجمعين، فكيف بأولي العزم، فكيف بأفضل أولي العزم وأفضل مخلوق في الوجود!!! وأما عدم قصد الإهانة فهذا لا يخرج الفعل عن كونه إهانة، فالإهانة تارة تكون بقصد وتارة بغير قصد، ولكلٍّ حكمه، نسأل الله تعالى العافية والسلامة من كل تعد على حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومقامه العظيم. وأود بعد هذا الكلام الوجيز لهذا المقام العظيم تتويجَ المقال ببعض الأدلة الأخرى - إضافة إلى ما ذكر - المحرِّمة لهذا الفعل القبيح الشنيع: فمنها قوله تعالى: «والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم». فإذا كان بعض سفهائنا يَعُد إهانةً له أن يُنادَى بمحمد؛ لأنه شعار للخدم عندهم، فكيف لا يكون هذا الابتذال الصارخ والإهانة المتكررة لهذا الاسم المقدس أذيةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم!!! وأذيته أذيةٌ لرب العالمين، وإهانته إهانةٌ لرب العالمين الذي ربط تبجيلَه صلى الله عليه وسلم بتبجيله، وتوقيرَه بتوقيره، فقال جل جلاله: «إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا». ومنها: قوله تعالى: «ورفعنا لك ذكرك». وهذه الآية نص صريح قاطع في تقديس اسمه -وكلِّ ما له صلةٌ به- ورفْعِه على باقي الأسماء؛ لأن ذكره هو اسمه، كما ذكرت عامة كتب التفسير. قال ابن جزي في التسهيل في تفسير هذه الآية: أي نوَّهنا باسمك وجعلناه شهيرا في المشارق والمغارب. وقيل معناه: اقتران ذِكْره بذِكْر الله في الأذان والخطب والتشهد وفي مواضع من القرآن، وقد روي في هذا حديث أن الله قال له: إذا ذكرتُ ذكرتَ معي. التسهيل ص 796. وكلا المعنيين صحيح قطعا: التنويه: وهو التعظيمُ والتفخيمُ والإشادةُ باسمه وإشهارُه بين العالمين، وقَرْن اسمه باسم الرب سبحانه وتعالى؛ لبيان أن تفخيم اسمه من تفخيم اسم الله تعالى، وأنه أقرب أحبابه إليه وأجلُّهم عنده، فلا يذكر اسم الله تعالى إلا وذكر معه اسم حبيبه ومصطفاه. قال الحافظ ابن حجر: أخرج الطبري وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد رفعه: «أتاني جبريل فقال: يقول ربك: أتدري كيف رفعتُ ذكرك؟ قال: الله أعلم. قال: إذا ذُكرتُ ذكرتَ معي». وهذا أخرجه الشافعي وسعيد بن منصور وعبدالرزاق من طريق مجاهد قولَه. انظر: فتح الباري 8/712. والحديث الشريف- كما ذكر الألوسي- اقتصر على أجل أفراد الرفع وهو قرن اسمه صلى الله عليه وآله وسلم باسم ربه تعالى، وإلا فرفْع ذكره يشمل أمورا كثيرة منها ما ذَكَره، ويشملها والله تعالى أعلم: رَفْعُ كلِّ شيء له به صلة صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا؛ لأن ما له صلةٌ به من ذكره صلى الله عليه وسلم. * أستاذ أصول الفقه - جامعة أم القرى