المحرك الأول للإنسان عقله، والعقل قد يفسر بالذهن المفكر أو القلب المدبر، قال تعالى: { فتكون لهم قلوب يعقلون بها}.وكلاهما موجه محرك، فالعقل ملك والجوارح جند، كما في وصف أبي هريرة، وأبلغ منه وصف النبي صلى الله عليه: (في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب). ذلك لأن عصيان الجوارح لأمر القلب متعذر، وعصيان الجند للملك ممكن. بهذا ينكشف فضل العقل على البدن، وفضل علومه على علوم الظاهر، بل كل متعلقات العقل هي أشرف من متعلقات البدن، وليس هذا إلا من باب إنزال الأشياء منازلها، كإنزال الناس منازلهم. والشأن هنا في "المادة" الموضوعة في هذا العقل المحرك، فبحسبها تكون الحركة سلبا أو إيجابا؛ فحين تتجه نحو الإلحاد ومنازعة الأديان، أو نحو المحرف من الملل، أو حتى ما دون ذلك كالبدع، فهو دليل على فساد المادة الموضوعة، فإن اتجهت نحو الفطرة والصحيح من الملل وإصابة أنوار النبوة، فالمادة صالحة. تلك المادة الصالحة بالقطع لن تكون سوى الإسلام والسنة؛ فالإسلام الدين الذي ارتضاه تعالى لعباده، والسنة هي لب الإسلام وصفاؤه خاليا من شوائب البدع. وهذا هو بالتحديد ما يحتاجه العقل ليصح ويصحح حركات الإنسان، وليس من شأننا إثبات صحة الإسلام والسنة، فهذا معروف لدى المسلمين. ثم إن علوم الإسلام منها شريعة تتعلق بالظاهر، وعقيدة تتعلق بالباطن. ومتعلق الباطن هذا هو "مادة" العقل؛ وهو ذو شقين: شق منه متعلق بالذهن المفكر، وآخر بالقلب المدبر. فأما الأول: فأركان الإيمان الستة: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره). والآخر: أعمال القلوب بدءا: بالمحبة، والخوف، والرجاء، والتوكل، والصدق، والإخلاص.. إلخ. من هذه المادة العقلية تكون علم سمي ب"علم العقيدة" أو "أصول الدين"، احتل مكانا بين التخصصات الشرعية، فأنشئت له أقسام خاصة، وهذا من أحسن ما خطط له ورسم؛ إذ به صار طريق تصحيح مبدأ الحركات الإنسانية؛ لتصح الحركات نفسها: علما مضبوطا ملموسا، له مناهجه، ومفرداته، وأساتذته، ومعاهده، وأقسامه، وكلياته، وشهاداته، حتى وظائفه. يتخرج منها طلاب متخصصون يفيدون الأمة في تراثها الخبري الذي هو نصف الوحي؛ فالوحي إما خبر أو حكم، وعلم العقيدة مختص بجانب الخبر كله. ولم يقف هذا العلم عند حد تعليم وحفظ أخبار الوحي، بل طور منهجه فشمل المواد الشائبة، فدرس كافة الملل الوضعية والديانات السماوية، والفرق الإسلامية وغيرها، والفلسفات القديمة والحديثة والمذاهب الفكرية المعاصرة، كلها بميزان الإسلام والسنة، مكن ذلك المتخصص في العقيدة من إحاطة شاملة بأفكار ومعتقدات الإنسانية والبشرية، متجاوزا تاريخ الزمان والمكان، مما أهله لمرتبة "مستشار الأمة" في جانبها الفكري العقدي، يكشف لها ما خفي من أفكار ومعتقدات الأمم، يؤهلها بذلك لمعرفة الطريق الأمثل لمعاملة المخالفين في الأديان والملل والفرق والمذاهب؛ بالإفادة منها وتجنب سلبياتها، واليوم صار هذا التخصص موئلا لأدنى التلامذة همة وجدّا؛ لظروف تنظيمية تتعلق بقلة مجالات توظيف المتخرجين.