ربما رقّ النسيم في منتصف الليل، فداعب الجفون وسرق منها النوم... نظر عبدالرحمن إلى زوجته وطفليه (خالد ودرر)، أو هم نظروا إليه وتوسلوه ألا يعيدهم إلي القفص الاسمنتي الذي يسكنونه، قبل أن يطلقهم في البرية، حتى وإن كان الوقت متأخرًا. ربما سأل خالد أباه: كيف يستيقظ الفجر يا أبي؟ فأراد الأب أن يريه وأخته: كيف يصحو الصباح متثائبًا، وكيف تنزع الأرض عن جسدها غطاء الظلام السميك؟ ربما... المهم أنهم كانوا هناك في الوادي، صبيحة السبت ما قبل الماضي، وأنهم كانوا يجتمعون لآخر مرة مع بعضهم البعض، قبل أن تحيلهم الأقدار في ذات الليلة إلى حكاية يتناقلها الرواة، وتدمى لها القلوب. ما يقوله الرواة أن عبدالرحمن حوصر مع أسرته الصغيرة في المدخل العائلي للمنتزه (الوادي)، من قبل دوريتين: واحدة تخص الهيئة، وأخرى أمنية. أنهم ضبطوه متلبسًا بجرم مشهود، وهو يحاول غواية الوادي، وإعادته إلى جاهليته الأولى!! لم يهرّب عبدالرحمن المخدرات، ولكنه هرب الأغاني! ولم تكن الأغاني التي هربها من قبيل (وداعية) عبدالكريم عبدالقادر، بل كانت من الأغاني الإيقاعية (الإسلامية) التي تنشدها فرقة طيور الجنة، ومع ذلك فإن (جرعة) الأغاني الخفيفة التي هربها، تمّتْ في مكان بالغ الحساسية، فالوادي الذي حمل أسرته وأغانيه إليه، كان يسمى إلى زمن قريب (السكران)، وحين منَّ الله عليه بالإسلام وبالنطق بالشهادتين، تغير اسمه من (السكران) إلى (الشكران)... هكذا إذاً أراد عبدالرحمن أن يدخل إلى الوادي من نقطة ضعفه.. أن يذكره بعهده القديم يوم كان طروبًا ثملاً. لكن (الأسود) تصدوا له قبل أن تترنح الأشجار من شدة سكرها... قبل أن تردد الجبال الأغاني، ويصفق الغمام، وتستيقظ الطيور على ليلة صاخبة لم يعرفها الوادي منذ كان سكيرًا عربيدًا في أيام جاهليته الأولى. أخرجوه (بفضل من الله)، ثم طاردوه لأربعة كيلومترات (فيما يقول الرواة) حتى (كَفَتوه) هو وأغانيه وزوجته وطفليه في جرف من الجروف... نفضوا أيديهم وثيابهم ومشالحهم من غبار المعركة، وانصرفوا ظافرين، تاركين وراءهم الأب (33 عامًا) مقتولاً، والأم (28 عامًا) مقطوعة اليد من أعلى الكتف، والطفل خالد (9 سنوات) مهشم الجمجمة ومصابًا بنزيف في المخ... وحدها درر (4 سنوات) كانت تقاوم الظلام والخوف والألم بالبكاء... وحدها كانت تشق الليل بصوتها المخنوق، وتغسل الغبار بدموعها الساخنة.. وحدها كانت تطلق صرخة في (زمان الصمت)، "في وادي لا صدى يوصل".