ليس بالقطعيات وحدها يقوم الدين، فالقرآن قسم ما نزل به الوحي إلى: محكم (=قطعي)، ومتشابه(=ظني). في قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات..). وفي كلام المتقدمين: المحكم لا يحتمل إلاّ معنى واحدًا، والمتشابه يحتمل أكثر. والمتأخرون فصّلوا وبيّنوا أن المحكم هو: ما كان قطعي الثبوت؛ أي من جهة السند. قطعي الدلالة؛ وهو ما توحّد معناه ولم يتعدد. فهذا القسم ممّا لا خلاف على اعتباره "نصًّا" يجب الإيمان به، والعمل عند الجميع، إنما الخلاف جاء على المتشابه؛ ظني الثبوت، أو ظني الدلالة. وحقيقة الأمر: أن التشابه غير مانع من العمل، فثمة قاعدة للعمل بالمتشابه، يعرفها من رسخ وفهم. ف"ظني الثبوت" يختلف تفسيره بين متكلم وأثري، فالأول يدخل فيه أحاديث الآحاد، فيقرر عدم الإيمان، أو العمل بنص ثبت من طريق آحاد، بينما الأثري يخصصه بما ضعف سنده أو بطل، ولا يدخل فيه الآحاد، ويستند في ذلك إلى موقف الصحابة الذين قبلوا بخبر الواحد، بل والنبي صلى الله عليه وسلم. و"ظني الدلالة" متفق على تعدد دلالته ومعناه، لكن مختلف في الحكم به، فثمة مَن يرى أنه في حل من الإيمان، والعمل بنص يحتمل أكثر من معنى، وله أن يختار من معانيه ما يشاء، كيف شاء، ومخالفه يرى هذا من فعل أهل الزيغ: (فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله). فالله تعالى أنزل المتشابهات كما أنزل المحكمات؛ لتدل على مراده خبرًا أو حكمًا، ولم ينزلها لمجرد التلاوة، ثم الترك والإعراض، فتكون عبثًا لا فائدة منها، فإنها وإن تعددت معانيها، فقد تضمنت معنى يتفق مع المحكم، فما من متشابه إلاّ وله محكم يرجع إليه، فيكون المحكم ميزانًا له، به يعرف أي تلك المعاني هو المراد؛ ولذا ميز الله به الراسخين في العلم، بأنهم يعلمون المتشابه وما أراد الله به: (وما يعلم تأويله إلاّ الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكّر إلاّ أولو الألباب). أي يعلمونه قائلين آمنا به. وبه صاروا راسخين، وتميّزوا عن العامة، فالصحيح أنه لا وقف هنا على لفظ الجلالة. وبهذه الوسيلة يتحقق العمل بجميع الكتاب: المحكم، والمتشابه. فلا يكون المرء ممّن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، فتعطيل المتشابه كليًّا، أو اختيار المعنى الموافق للمزاج والهوى، وترك المعنى الموافق للمحكم: يضر لا بالمتشابه وحده، بل بالمحكم الذي في موضوعه؛ لأنه حينئذٍ يولد معارضة بين نصين مقدسين: أحدهما محكم، والآخر متشابه، وهذا مستبشع؛ لأنه تعالى قال: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كبيرًا). والعمل بالمعنى المتفق مع المحكم، جمع بين نصوص الكتاب، وإيمان بها جميعًا. مثلٌ على ذلك: قوله تعالى: (إن الله يغفر الذنوب جميعًا)، هذا نص متشابه يحتمل الإطلاق العام؛ ليشمل الذنوب كافة، حتى الشرك والتي لم يتب منها. ويحتمل الإطلاق الخاص؛ ليشمل كافة الذنوب ما دون الشرك، والتي تاب منها، فمَن فسره بالأول عارض به المحكم، كقوله: (إن الله لا يغفر أن يشرك به..)، لكن اختيار الثاني سيبنيه على المحكم، فيؤلف بين النصوص ولا يعارض، وهذا هو الإيمان.