ربما لا يعلم الكثير من المسافرين هذه الأيام على متن طائرات الخطوط السعودية من هو صاحب الصوت الشجي الذي ينساب إلى آذانهم بدعاء السفر المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم والذي يجلب الطمأنينة والراحة إلى النفوس، لكن من المؤكد أن من عاصر الثمانينيات والتسعينيات الهجرية من القرن الماضي سيعلم تمام المعرفة أنه المقدم الإذاعي والتلفزيوني المخضرم الدكتور محمد أحمد الصبيحي والذي كان ملء السمع عبر عدد من البرامج الإذاعية الشهيرة ومنها برنامج مسرح الإذاعة الذي استضاف عمالقة الطرب السعودي والعربي مثل الفنان طارق عبدالحكيم ووديع الصافي، ولاحقا ملء السمع والبصر معا من خلال تقديمه لعدد من البرامج الشهيرة على شاشة التلفزيون السعودي منها «هدي النبوة» و»سهرة الاثنين» و»مشاكل وحلول»، وقد عاصر بدايات التلفزيون وكان من مؤسسيه وأنهى مسيرته العملية مديرا له في جدة. «المدينة» التقت د.الصبيحي في مقر عمله الحالي باتحاد الإذاعات الإسلامية لاستعادة ذكريات البدايات للإذاعة والتلفزيون، ولم نحتج لطرح الكثير من الأسئلة فذاكرة الدكتور عامرة بالذكريات ولا تحتاج لمن يحرضها كيف لا وقد قضى أكثر من خمسين عاما في العمل الإعلامي قريبا من كبار المسؤولين بداية بوزير الإعلام السعودي الأول جميل الحجيلان وعمالقة ورواد العمل الإذاعي مثل الأستاذ عباس غزاوي وغيره، وحكى لنا الدكتور الكثير عن مرحلة الانتقال إلى الترفيه الإذاعي البريء في عهد الملك فيصل بإدخال فقرات غنائية كان من أولها أغنية «ولد الهدى» لأم كلثوم ومسلسلات وبرامج منوعة بعد أن كانت الفقرات الإذاعية مقتصرة منذ انطلاقة الإذاعة في عهد المؤسس الملك عبدالعزيز آل سعود رحمه الله على البرامج الدينية ونشرات الأخبار، وحكى لنا أيضا عن أول صلاة في المسجد الحرام والمسجد النبوي تم بثها إذاعيا، وعن قيامه بمهمة التعليق على مباراة الوحدة والاتحاد والتي كانت تجربته الأولي والأخيرة في هذا الصدد، فإلي نص الحوار: نشأ الإعلامي الدكتور الصبيحي المولود في مكةالمكرمة العام 1361 في أسرة كبيرة مكونة من 7 أشقاء و 6 شقيقات، وكما يقول فقد زرع والداه فيهم محبة بعضهم والاحترام المتبادل، أخوه الأكبر محمود رحمه الله، وبقية إخوته هم عبدالقادر، حسن، عبدالعزيز رحمه الله، وعبدالستار ممثل رحمه الله، وإسماعيل، وعمر أما أبناؤه فالأكبر هو الدكتور المهندس ممدوح وتخصصه في هندسة المناظر الطبيعية (Landscape architecture) وهو تخصص حديث، والدكتورة مائسة وهي عضو في الوفد السعودي بهيئة الأممالمتحدة، والدكتورة مروج وتدرس في كندا وحاصلة على البورد الأمريكي والكندي في مجال طب الأطفال. وفاة الشقيق كانت الظروف المادية الصعبة في الماضي والتي عاشتها أسرة د.الصبيحي كغيرها من الأسر الأخرى تنضج الأطفال قبل أوانهم وتحولهم إلى رجال يمدون يد المساعدة إلى أهليهم من خلال العمل والاجتهاد، ويذكر د.الصبيحي قصة في هذا الصدد حدثت في الماضي البعيد قبيل دخوله إلى المدرسة، فذات صيف ذهبت عائلته إلى الطائف أسوة بغالبية أهالي مكةالمكرمة الذين يقضون فصل الصيف فيها، وتزامن ذلك مع عمليات بناء عمارة بمنطقة اليمانية أمام مستشفى الملك فيصل مكونة من عدد من الطوابق بالطريقة التقليدية القديمة باللبن، فذهب بصحبة أخويه حسن وعبدالعزيز الأكبر سنا إلى معلم البناء وطلبوا منه الانضمام إلى العمال فوافق على أخويه ورفضه لصغر سنه إذ لم يكن بلغ حينها الست سنوات، ويكمل د.الصبيحي القصة بنفسه ويقول: «فرجعت حزينا إلي البيت أشكو لوالدتي ما حدث، ولم تمض ساعتان على رجوعي إلا وبدأ الناس يتناقلون خبرا بانهيار العمارة التي يعمل في بنائها أخواي، فذهبت مسرعا إليها ووجدت أن الخبر صحيح فالعمارة منهارة ويتجمع حولها عدد كبير من الناس، ولحق بي والداي الجزعان، وبدأ الاهالي البحث عن أقاربهم بأنفسهم نظرا لضعف إمكانات الإنقاذ ذلك الوقت وكان في العمارة عدد كبير من الناس، وقد نجا أخي حسن مع عدد آخر من الذين استطاعوا القفز من سطح العمارة على الخلطة، فيما مات أخي عبدالعزيز مع عدد كبير إذ وجد الوالد جثته مع فجر اليوم التالي، وقد نجا بعض الناس من تحت الأنقاض رغم بقائهم بدون ماء أو طعام لمدة أربعة وخمسة أيام وكان هذا الحدث فاجعا ومؤلما لمن فقدوا أحبتهم ومنهم عائلتي». بعد هذه الحادثة قابل والد د.الصبيحي مدير المدرسة السعودية بمكة الأستاذ يحيى عظمة وطلب منه إحلاله مكان أخيه المتوفى في الحادثة عبدالعزيز رغم عدم وصوله إلى سن الدراسة القانوني، وقد تعاطفت إدارة المدرسة مع الطلب ووافقوا على ذلك، وبدأ د.الصبيحي رحلته لطلب العلم على يد عدد من المدرسين الأفاضل منهم الشريف طاهر وسعيد خفاجي والأستاذ المنديلي وإسماعيل تميم، ورافقه من الزملاء عبدالعزيز النافع وأحمد الحمدان «أبو خالد» الأقرب لنفسه كما يصفه والذي عمل ممثلا ماليا في وزارة الخارجية ويعمل حاليا مستشارا في الغرفة التجارية، وسراج جستنية وعدد من أبناء عائلة النحاس وحمود المشوع، وحسن موسى وإبراهيم موسى وغيرهم. تحضير البعثات وبعد انهاء الدراسة الابتدائية في المدرسة السعودية التحق د.الصبيحي بمدرسة تحضير البعثات بمكةالمكرمة والتي كانت تؤهل الطلاب للابتعاث خارج المملكة، وكانت إحدى مدرستين بمكة بعد المرحلة الابتدائية ثانيهما المعهد العلمي، وكان من زملاء دراسته في مدرسة تحضير البعثات حسين سجيني ونبيه الأنصاري وأسامة السباعي ومندوب المملكة والممثل الدائم لها في هيئة الأممالمتحدة حاليا د.عبدالوهاب عطار وبشير دهلوي ومحمد علي صيرفي وصالح كامل وعيسى بدري، ومن مدرسيه حسين سراج والأستاذ الطبجي، ومدرسا مادة الدين سعيد يماني وشيخ الحرم المكي عبدالرحمن الخليفي، وزكي عوض (مدرس اللغة الإنجليزية)، وحسين غانم (مدرس التربية البدنية)، يقول د.صبيحي عن هذه المرحلة المبكرة من حياته: «كان مستوى الدراسة في مدرسة تحضير البعثات ممتازا، فكنا ندرس الكيمياء والهندسة واللغة الإنجليزية في عمر الثماني سنوات، وكان الأساتذة يدعموننا ويساندوننا رغم ما يظهرونه من شدة، والتي كانت في مصلحتنا وزرعت فينا الالتزام». الانتقال لجدة للعمل وتوقفت رحلة د.الصبيحي الدراسية في مكة بعد عام قضاه في المدرسة العزيزية بعد انتقاله إليها مع زملائه من مدرسة تحضير البعثات التي أغلقت أبوابها، وألقى رحاله في جدة للعمل لمساعدة الأهل ماديا، إلا أن ذلك لم يثنه عن متابعة دراسته بل زادته الأحوال المادية الصعبة على بذل مزيد من الجهد لتحسين وضعه المادي، فكان بالإضافة لعمله في البريد يذهب لثلاث مدارس في اليوم بعد انتهاء فترة دوامه، فكان يدرس بمدرسة ليلية ويتعلم اللغة الإنجليزية والكتابة على الآلة الكاتبة، يقول عن هذه الفترة: «انتقلت للعمل في البريد بجدة، وكنت أحصل على راتب شهري 350 ريالا فضة، وهو مبلغ كبير ذلك الوقت، وكان مديري هو عبدالقادر محتسب رحمه الله، وكان دوامي على فترتين تنتهي الساعة الخامسة عصرا ونعمل طوال الأسبوع دون إجازات، وكنت أخرج من الدوام إلى مدرسة إنجليزية (المؤسسة العلمية الكبرى لتعليم اللغة الإنجليزية وكان مالكها حسن باقلين) ثم إلى معهد لتعليم الآلة الكاتبة ومن بعد ذلك إلى المدرسة السعودية في دوام ليلي»، وكان من زملاء دراسة د.الصبيحي في المدرسة السعودية بجدة عزت مفتي وعلي بعداني ومحمد علي ملا ويعرب بالخير وكانوا جميعا يعملون صباحا، وعندما قطع شوطا في التعليم بجدة وأصبح يجيد استعمال الآلة الكاتبة بحث عن فرصة عمل تدر عليه دخلا ماديا أعلى وبالفعل جاءته وظيفة أفضل في سلاح الطيران بالإدارة المالية التحق فيها وكان مدير سلاح الطيران حينها حمزة طرابزوني رحمه الله (أول لواء طيار في العهد السعودي)، ومدير الإدارة المالية حمزة بشاوري رحمه الله وكان من زملائه في الشؤون الإدارية محمود حجازي رحمه الله وأسعد أبو النصر الذي أصبح سفيرا لمصر لاحقا، وعبدالرحمن يغمور وصالح جلال وأسعد عزوز ومحمد علي صالح ملا ويعرب دفتردار وفي القسم الهندسي عبدالوهاب أصيل، وقد زين كتف د.الصبيحي خلال عمله في القوات الجوية نجمة إدارية، وظل في هذا العمل لمدة أربع سنوات فتحت له خلالها بوابة الولوج إلى مجال آخر من العمل سيظل منتميا ومخلصا له لبقية حياته وهو العمل الإعلامي. تأسيس جامعة كانت رحلتي الدراسة والعمل متلازمتين طوال حياة د.الصبيحي، وكان مهتما بالتحصيل العلمي رغم كل الصعوبات وضيق الوقت الذي يفرضه عليه العمل الشاق، فكانت لا تعجزه العقبات عن السير على درب التعليم وابتكار الحلول للمصاعب، ومن ذلك ما حدث من تأسيسه وزملائه الذين أنهوا دراستهم الثانوية بالمدرسة الليلية لنواة جامعة بجدة في نهايات الثمانينيات الهجرية، يقول عن ذلك: «قدمت وزملائي بالقسم الليلي بالمدرسة السعودية الثانوية للدراسة بقسم التجارة في جامعة الملك سعود بالرياض انتسابا، ومن القصص الطريفة أننا قمنا بتكوين بؤرة جامعة في جدة قبل انشاء جامعة الملك عبدالعزيز، إذ استأجرنا شقة في باب شريف بعمارات بن محفوظ، وبدأنا بتأسيس كلية التجارة، وكنا نحضر أفضل مدرسي الصفوف الثانوية بالمواد المختلفة، وندفع لهم مقابلا ماليا عن كل حصة يعطوها لنا، وكان الشيخ صالح كامل والذي تخرج في جامعة الملك سعود ويعمل حينها ممثلا ماليا بوزارة الإعلام بالإضافة لتمثيله في عدد آخر من الإدارات الحكومية يوفر لنا الملازم الدراسية لجميع أقسام جامعة الملك سعود من تاريخ وتجارة وغيرها مقابل مبالغ مالية زهيدة، وقد أفادنا ذلك كثيرا، لكن هذه البؤرة الجامعية لم تستمر سوى لعام واحد ثم أغلقت أبوابها إلى الأبد»، وكان زملاء د.الصبيحي فيها هم يعرب دفتردار والشريف محمد الجعفري وعلي بعداني ومحمد مدني فلاتة وعزت مفتي وأحمد حسن فتيحي ومحمد علي ملا. بعد فشل هذه التجربة غير د.الصبيحي تخصصه الدراسي من قسم التجارة إلى قسم التاريخ بجامعة الملك سعود، وأكمل مشواره فيها حتى النهاية ولم يتعثر إلا في فصل دراسي واحد، فقد كان ينقصه خمس علامات في مادة اللغة الإنجليزية وكان النظام حينها أن الرسوب في مادة واحدة يستلزم إعادة الفصل الدراسي وليس كما يحدث الآن، وحاول إثناء مدير قسم اللغة الإنجليزية الأستاذ محمدين عن ترسيبه شارحا له ظروف عمله بالإذاعة ووجوده بعيدا في جدة وأنه يحتاج للدعم حتى لا يعيد الفصل الدراسي خصوصا أن الدرجات الناقصة قليلة، فطلب منه التفاهم مع مدرس المادة والذي رفض رفضا قاطعا أن يساعده وقال له إن ابنته ذات الست سنوات تستطيع حل الاختبار، يقول د.الصبيحي: «قلت له هذا ليس موضوعنا فأنا أريد إنقاذ السنة الدراسية إلا أنه رفض، وأعدت السنة وللأسف أن ما زاد صعوبة الأمر أن المناهج تغيرت تماما، لكن والحمدلله نجحت وحصلت على الشهادة الجامعية في العام 1392ه». Array