يُحْمَدُ لعلماءِ هذا البلد المعْتَبرين، وعلى رأسهم الشّيخان عبدالعزيز بن باز، ومحمّد بن صالح العثيمين -رحمهما الله-، والشّيخان عبدالعزيز آل الشيخ، وعبدالعزيز الفوزان -أمدّ الله في عمريهما- أنَّنا لم نسمع من أولئك الفضلاء قولاً تندّ منه رائحة التّعصب، ولم يُفتِ أحدٌ منهم بفتوىً تجرُّ إلى مهلكةٍ، أو تدعو إلى فتنةٍ؛ ولكنَّنا مع ذلك أُبْتلينا بأنصاف الفقهاء ممّن أباحوا لأنفسهم التَّربع في مجالس الدَّهماء والرّعاع، ينثرون بينهم لغة التّعصّب في القول والمذهب. إنَّ بعض طلبة العلم الشّرعي يسيئون إلى أنفسهم أيّما إساءة، ويزيدون في الوقاحة وقلّة الأدب والحياء حينما يتعلَّق الأمر برأي، أو حكمٍ شرعي حتّى وصل الزّعم أنْ حسب بعضهم رأيه هو رأي الدِّين! يقول المفكر الإسلامي محمّد الغزالي: "وقد قرأتُ ورأيتُ من أمراض التّعصّب المذهبي ما يثير الاشمئزاز، ويدعو إلى الدّهشة، وكأنَّ الذين خاضوا هذه المعارك الجدليّة يقصدون قصدًا إلى تمزيق المسلمين، وإهانة معارضيهم في الفكر بعلل مختلفة". وينقل الغزالي بعضًا ممّا ذكره الشّيخ عبدالجليل عيسى، يصحّ أنْ ننقل منه ما يصبّ في جوهر هذا المقال ويدور في رحاه. سُئل بعضُ المتعصّبين من الشّافعيّة عن حكم طعام وقعت فيه قطرة نبيذ، فقال: يُرْمى لكلبٍ أو حنفيٍّ!! وسُئل متعصّب حنفي: هل يجوز للحنفيِّ أنْ يتزوّجَ امرأةً شافعيّة؟ فقال: لا يجوز؛ لأنَّها تشكّ في إيمانها.. يعني هذا الأحمق أنَّ الشّافعي يجيز للمؤمن أن يقول: أنا مؤمن إنْ شاء الله تبركًا. فهذا الاستدراك أو الاستثناء بالمشيئة جعله شاكًّا يخرج من الملّة!! أمَّا الغزالي فيقول: "حَدَث لي ذات مرّة أن أفتيت بجواز حجّ المرأة وحدها في الرفقة المأمونة، فإذا طالب مكفوف يمسك بيدي وهو يرتعش من الغضب، يقول: كيف تفتي بهذا الحكم المخالف للسنّة؟ قلت: إنَّما أنقل مذهبي الشّافعي ومالك -رضي الله عنهما- قال: هما خالفا السنّة! قلت: هما لا يخالفان السنّة، إنَّ حديث نهي المرأة عن السّفر إلاّ بمحرم لها فهمه هذان الإمامان على أنَّه عند اضطراب الأمن، وخوف الفتنة. واستدلا على صحّة فهمهما بأنَّ الرّسول عليه الصّلاة والسّلام تنبأ بأنَّ الإسلام سوف يظهر، وأنَّ الدعار والفتّانين سوف يختفون حتّى تسير الظّعينة من اليمن إلى العراق لا تخشى إلاّ الله! وسفر الظّعينة هذه المسافة الشّاسعة لا يبشر الرّسول به إذا كان حرامًا". وفي ذات السياق ينقل الغزالي عن عبدالجليل عن أبي إسحاق الشّاطبي في (الموافقات) هذه الكلمة الصّائبة: "إنَّ تعويد الطّالب ألّا يطّلع إلاّ على مذهبٍ واحد ربَّما يكسبه نفورًا أو إنكارًا لكلّ مذهب غير مذهبه ما دام لم يطّلع على أدلته، فيورثه ذلك حزازةً في الاعتقاد في فضل أئمّة أجمع النّاس على فضلهم، وتقدمهم في الدِّين، وخبرتهم بمقاصد الشّارع، وفهم أغراضه". ويا ليت قومي يعقلون..!!