قال: ما أعطيتموه الأجرة؟ قالوا: لا. قال: الآن هو يطلب الأجرة في القصيدة والاستشهاد، وهذا من هذا. ثم إن أبا تمام من أشهر الشعراء بلا شك ويأتي بعد المتنبي، وقف عند المعتصم ينشده قصيدته التي يقول في مطلعها: ما في وقوفك ساعة من بأس نقضي ذمام الأربع الأدراس إلى أن يقول: إقدام عمرو في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياس فقام الطبيب الكندي - وكان الفيلسوف وكان حاضرًا- فقال: ما زدت على أن وصفت أمير المؤمنين بأجلاف العرب! فوجم قليلًا أبو تمام ثم ورَّد الأبيات: لا تنكروا ضربي له من دونه مثلًا شرودًا في النَّدا والباس فالله قد ضرب الأقل لنورِهِ مثلًا من المشكاة والنبراس فحُمد فعلُهُ في ذلك، فقال الطبيب الفيلسوف: هذا لا يعيش طويلًا. وفعلًا مات أبو تمام وعمره (46 سنة)؛ قال: لأن عقله يأكل جسمه. فدائمًا الأذكياء تجد عندهم من الاندفاع، ومن حدة الخاطر، وجودة الرأي ما يؤثر على أجسامهم في الغالب. وذكروا -أيضًا- أن أحد الوزراء كان في مجلس، فقال لأحد الشعراء: من يكمل لي بيت شعر يبدأ بكلمة وينتهي بنفس الكلمة؟ قالوا: أعطِنا الكلمة أيها الوزير. قال: سمسمة. فقال الشاعر الأول: سمسمة في العلم تُحمد بها واحمد لمن أعطى ولو سمسمة أي: اطلب علامة تُحمد، وتشكر فيها في العلم، واحمد الله ولو أعطاك سمسمة. وفي الآخر قال: ملأمة. فقال الثاني: ملأمة الوكساء في خدرها ألأم من حرّ أتى ملأمة الملأمة: الجارية الغبية في حدرها، أشد بخلًا وأشد ملأمة من الحر الذي يأتي ملأمة: أي: ما يُلام عليه من الأفعال الشنيعة. وألمح كمال الفضل حتَّى تُرى قاضٍ يدير الحكم في المحكمه قال: ألجم. فقال: ألجم جماح النَّفس عن غيّها فغيّها يذهب بالجمجمه وهكذا، وهذا من سرعة البداهة التي تحضر لبعض الشعراء، وهي موهبة، فمن سخرها في الخير أجِر على ذلك. وقرأت في (سفينة الأدب والتاريخ) أن أحد الأعيان والوجهاء كان مشهورًا بأكل الربا، وهو يعرف: السحت. وكان كذوبًا، فدعا أناسًا من الأدباء وبعض الأعيان للغداء، وفرشت المائدة أمامهم، وجلس عندهم -وهو لا يتغدى- ويحدث لهم بقصص من الأوهام والخيالات والخرافات وهم يأكلون، فهم يرون أن أكلهم من الربا وهو يتكلم بالكذب، ثم صاح بأحد الأدباء، فقال: كيف أنتم يا فُلان؟ قال الأديب: سمّاعون للكذب، أكَّالون للسحت. وهذا في كتاب الله عن أعدائه اليهود: (سمَّعون للكذب أكَّلون للسُّحت) [المائدة: 42]. وهذا من سرعة البداهة التي لا تتأتى لكل أحد.