حين قال أبو تمام ممتدحا أحد العباسيين: «إقدام عمرو في سماحة حاتم / في حلم أحنف في ذكاء إياس». كان الفيلسوف الكندي حاضرا فأراد إحراجه فقال: «ما زدت على أن شبهت الأمير بأجلاف العرب» فأطرق أبو تمام ثم قال على البديهة: «لا تنكروا ضربي له من دونه / مثلا شرودا في الندى والباس فالله قد ضرب الأقل لنوره / مثلا من المشكاة والنبراس». فلما ولي أبو تمام دعا الكندي بقصيدته فلم يجد فيها هذين البيتين فقال: «إن هذا لن يعيش طويلا فسوف يأكل عقله عمره كما يأكل السيف المهند غمده». وإشارة الكندي في هذه الرواية تفيد بأن الأذكياء لا يصبرون على مشاغل الحياة ولا يطيقون الركود، فهم في شغب دائم ولجاج مستديم مع الناس والحياة كما أخبر عنهم المتنبي «ذو العقل يشقى في النعيم بعقله»، فيقضي ذكاؤهم على عمرهم ومشاريعهم في كثير من الأحيان من غير أن ينجزوا شيئا. وحين تتأمل الذين صنعوا الأقدار الكبار في المجتمعات من العظماء، لا تجد في الكثير منهم ذكاء منفردا أو عبقرية مختلفة، وإنما شيئا من ذكاء، وقدرا كبيرا من الصبر والجلد الذي يعينهم على صناعة المشاريع ويقف بهم على حافة المجد. أما الأذكياء الذين كانوا يخطفون أبصار الناس ويستولون على اهتمامهم لعبقريتهم، تجد - في نماذج مختلفة- يقودهم النزق وقلة الصبر والتذمر من الناس إلى حيث اليأس والمشاريع المستقيلة، التي يبدأ فيها الإنسان بشيء ثم ينتقل لآخر، فهو لا يقف فيها على شيء ولا ينجز أي شيء! إن كثيرا من أصحاب القراءات الكثيرة والأفكار الجادة لا تكاد تقف أرجلهم على عمل علمي محدد حتى يتسلقوا لغيره، ولا يبدؤون بشيء حتى يسيل لعابهم لشيء آخر، فتعرف منهم في كل يوم شأنا وفي كل فترة مشروعا يبدؤونه ثم يجمدونه معلقا مطلقا، فتنتهي فترات حياتهم المجيدة لا ظهرا أبقوا ولا أرضا قطعوا. المشاريع الذكية يقتلها ذكاؤها، فلو رزق الكثير من الأذكياء قليلا من الصبر لكانوا فواتح رهيبة للعلم والقوة والنجاح، بيد أن طباع الكثير منهم الميالة للتمرد على الذات تجرهم إلى حيث لا يبدؤون شيئا حتى تكون بدايته هي النهاية، ففي البدء كانت الكلمة – كما في الإنجيل .. وفي البدء كانت الخاتمة كما يقول أحمد مطر!.