الحرف.. هذا الكائن العجيب حقًا، له كثير من الرؤى والدلالات العميقة منها والظاهرية، فهناك من يرى أن هذا الكائن العجيب له روح وجسد، وهذه الرؤية تنظر إلى أن جسد الحرف هو مادته ورسمه.. وروحه هي طاقته وقيمته، فعلى سبيل المثال الألف برسمها المعروف هي الجسد والمادة، أما طاقته فهي تقدر بواحد، وكذا الباء برسمها المعروف تعبر جسد ومادة الحرف، أما قيمته وطاقته فهي الرقم أثنين.. وتقاس على ذلك بقية الحروف الهجائية والتي يذهب أصحاب هذه الرؤية فيها بعيدًا إلى حساب طاقة الأسماء والجمل والعبارات من خلال مجموع طاقة حروفها.. وهناك أيضًا من كان له رؤية أخرى للحروف ومكنوناتها ومدلولاتها فعلى سبيل المثال حرف النون يرون أنه يعني الباطني أي الشيء الداخلي فالكلمة التي بها نون نجدها تدل على شيء باطني.. فالعين بها حرف النون وهي فعلًا باطنية وعن طريقها ينفذ المرء من داخله إلى العالم الخارجي فيرى الأشياء من حوله، ومن ذلك أذن، أسنان، لسان..، كما يرون أصحاب هذه الرؤية حرف الفاء أنه حرف نافذ ويأتي في الكلمات النافذة.. ومنها الفجر وهو نفوذ النور في ستر الظلام.. كلمات كثيرة بنيت من حروف ذات مدلولات عميقة وسطحية صح منها ما صح واختلف منها ما اختلف ... ولكن الحرف عند الفنان يوسف إبراهيم له رؤية مغايرة في جل أعماله، فهو أضاف هندسة مختلفة للحرف ورؤى متنوعة لا تختص إلا به فغدى بحق مهندسًا للحرف، فأضاف أبعادًا متنوعة ومختلفة في أعماله تجاوزت البعدين والثلاثة مع انتفاء أي وجود للأفق في أعماله فغاب الحرف بمعناه الظاهر والمقروء وبقيت روح الحرف ورسمه المتعانق والمتداخل في تشكيل وبناء متماسك يشع ويضيء بالانبعاث الروحي، فعمل على حسية الحرف أكثر من عمله على تجريده فالحروف في علاقاتها القاعدية موجودة وإن لم تشكل كلمات وجمل ولكنها شكلت نصوصًا بصرية غنية وقيمة ومتناسقة فاقت كل جمل بلاغية محدودة بمعنى ظاهري أو قيمة عددية، فالنبض الإيقاعي الذي تحدثه التركيبات الحروفية لدى يوسف جعلت من لوحاته مقطوعات شعرية تعزف بسيمفونية لونية مدادها الضياء وقوامها روحانية كبناء مرصوص ببقايا حرف، وكل ذلك لم يتأتى ليوسف إبراهيم إلا من قدرته العالية والمتمكنة كخطاط يجيد التعامل مع الحرف القاعدي ويقدس متنه ورسمه ويتعامل معه بحب فتغزل انحناءات خطوطه وعشق جرأة تموجاته وأجاد التعامل مع جسد الحرف وتشريحاته، وليس ذلك فقط وإنما هو فنان ذو قدرة عالية روض اللون وامتلك يدًا وعينًا على قدر من الحساسية تحسن التعامل مع اللون وتوزيعاته، كل ذلك جعل من أعماله معلقات شعرية بحروفه الخاصة ذات الحركة الدائمة والمتناغمة والمعلقة على أعمدة من ضياء، فحرر الطاقة الداخلية للحرف وأضاف تباينًا بين مستويات صنعها بحجوم حروفه تصغر وتكبر دونما أي خلل في الرؤية بل إضافة وعمق يصنع نسيجًا متماسكًا ومحبوكًا بصنيعة تتجاوز الحرفة إلى الإبداع والتميز في هوية لا تشبه أحدا إلا شخصية يوسف إبراهيم ذاته.