الموسيقار الفنان الكبير الأستاذ غازي علي قال لي وهو يودعني وصديقي الزميل أنمار مطاوع: لو كتبت عني ما قلته يا توفيق فسألقي بنفسي من شرفة شقتي وقفل باب شقته بابتسامته المعهودة وعاد لطلابه الذين كانوا يتعلمون عنده الطرق الصحيحة للغناء «دراسة الصولفيج» إلى جانب القراءة والكتابة الموسيقية «النوتة» والعزف على الآلات الوترية. نزلنا من العمارة بالدور الثاني وأنا أقول لصديقي الدكتور أنمار مطاوع: سوف أكتب عن الأستاذ غازي علي كما كتبت عن الفنان الجسيس عبدالرحمن مؤذن يرحمه الله في ملحق الندوة الفني عندما كنت تشرف عليه أنت يا أنمار أتذكر هذا؟؟ وكيف كان عنوان اللقاء مؤثرًا «عزيز قوم ذل»؟ وتجاوب معه صاحب السمو الملكي أمير الشباب فيصل بن فهد يرحمه الله آنذاك ونظر إلى الفنان المؤذن بقلبه العطوف الرحيم ويده المعطاءة فكان ذلك اللقاء بمثابة البلسم الذي داوى جميع جراحاته قال أنمار: أذكر هذا وبعدها جاءه خير كثير من أحد رجال الأعمال في مكةالمكرمة، ولكن يا توفيق الأستاذ غازي علي غير الجسيس المؤذن وأنت تفهم ما أقصده!!. ولو كتبت عنه بنفس الأسلوب الذي كتبته عن المؤذن فسوف يلقي بنفسه من النافذة وتكون أنت السبب في نهاية حياته. ركبنا سيارة أنمار المازدا الخضراء الصغيرة موديل 90 واتجهنا نحو مكة حيث نقيم وكنت في حيرة من أمري.. أأكتب بجنوني الصحفي أم لا أكتب وأنا أمامي ملحق فني أشرف عليه ومحتاج لموضوع رئيسي؟! أخيرّا قررت عدم الكتابة احترامًا وحبًّا وتقديرًا مني للأستاذ الكبير الموسيقار غازي علي، والأخذ بنصيحة أخي وصديقي وزميلي في الدراسة الجامعية «أبوالنمور» الذي أعرف أن رأيه دائمًا لا يخيب!. وبقيت أتابع الموسيقار غازي علي وأسأل عنه، وكنت أسمع أخبارًا غير سارة عن أحواله المادية وأخبارًا مدهشة وغريبة عن فصله الموسيقي بأنه يعلم معظم الموهوبين فيه مجانًا لقناعته بموهبتهم وعدم قدرتهم على دفع رسوم الدراسة الشهرية التي لو ذكرتها لكم ربما تستغربون وتحزنون عليهم كحزن أستاذهم الفنان المحترم غازي علي.. رقيق الحال الذي يعيش مع والدته في شقة صغيرة مكونة من ثلاث غرف. غرفة له ولوالدته - يرحمها الله -، وغرفة لاستقبال ضيوفه، وغرفة جعلها فصلاً دراسيًّا يدرس فيها الموهوبون؟!. وقد كانت لي متعة الجلوس في هذه الغرفة الأنيقة ذات الألوان المتناسقة والأنوار الخافتة المعبرة عن فنه وذوقه.. آلة كمان تنام على ظهرها إذا لامس الهواء العليل أوتارها أنَّت كأنين صاحبها.. وآلة عود ترتكز على وسادة بيضاء كبياض قلبه وكراسًا موسيقيًا وآذانا صاغية في جو دراسي هادئ لا يمكن وصفه. وقد تخرج في مدرسته أسماء فنية لامعة أذكر منهم على سبيل المثال الفنان المعروف طلال سلامة صاحب الصوت العذب الذي إذا غنّى أطرب السامعين.. والصوت المغرد عبّاس إبراهيم والتلميذ الفنان ثامر صاحب أغنية «وطنك ويش تقدر تعطيه». ما أورع هذه الزيارة لهذا الموسيقار المبتعد عن الأضواء الإعلامية والاستمتاع بأحاديثه العذبة وصوته الدافئ فإن تحدث في الموسيقى العالمية وعباقرتها شتراوس موزار بتهوفن وغيرهم لا تريده أن يسكت، وإذا تحدث في الموسيقى العربية وعمالقتها عبدالوهاب والسنباطي والموجي وبليغ والرحابنة والقصبجي والكدرس وفوزي محسون فتطلب منه المزيد، وإذا تحدث في الأصوات العربية الجميلة أولها وآخرها لوجهت إليه سؤالاً: ولماذا لا تكتب هذا في الصحف اليومية يا أستاذ؟؟. موسيقار مثقف فنيًا وأدبيًا واجتماعيًّا تنصت له إذا تكلم عن «اليوجا» تخرج قلمك من جيبك لتكتب كل ما قاله حرفًا حرفًا، وإذا سألته في التاريخ أو الأدب فستقول «يا الله» هل قرأ هذا الرجل كل كتب المؤرخين السعوديين والشعراء والأدباء العالميين والعرب شكسبير شارلي شابلن العقاد وطه حسين وشوقي ورامي والزمخشري والقنديل والغزاوي والقصيبي وعبده خال والثبيتي وحسين سرحان وغيرهم.. كتب أدبية قيمة ملأت رفوف مكتبته المتواضعة التي وضعها بالقرب من سرير نومه. لقد قدم الفنان غازي علي بصوته العذب الدافئ أجمل أغنيات الوطن «شربة من زمزم سقاني» «يا روابي قباء» «في ربوع المدينة» وغيرها كما غنّى من ألحانه كبار الفنانين السعوديين والعرب واستطاع أن يضع بصمته الفنية المغلفة بتراب وطنه الذي لم ينفصل عنه داخل رسالته الفنية، فلو استمع أي إنسان إلى موسيقاه في أي بلد عربي لعرف أن هذا فن سعودي لحنًا وأداء.. زمزم.. الحرم.. المدينة.. قباء. أفلا يستحق هذا التكريم والاهتمام وهو يعمل في صمت ولم يدلِ بأي تصريحات، ولم يطالب بشيء؛ بل تمنى من الرئيس العام لرعاية الشباب صاحب السمو الملكي الأمير الراحل فيصل بن فهد - يرحمه الله - أن تكون لدينا معاهد للفنون الجميلة تحتضن المواهب في بلادنا الغالية، ولقد سمعت كغيري أن سموه - يرحمه الله - اهتم باقتراحه وأمر بدراسته؛ لكن قدر الله قد سبق فتوفى سموه - يرحمه الله -.. ولا يزال الأمل باقيًا في ابنه صاحب السمو الملكي الأمير الجليل نواف بن فيصل بن فهد الرئيس العام لرعاية الشباب يحفظه الله.. الذي أوقف سيارته في إحدى حواري مدينة جدة وشمّر ثيابه ولعب كرة القدم مع الموهوبين الرياضيين الصغار تشجيعًا لهم حتى يواصلوا مشوارهم الرياضي بعد أن أعجب سموه بموهبتهم. كذلك لن يترك سموه صاحب القلب العطوف الموسيقار الفنان غازي علي وحيدًا؛ بل سيشمله أيضًا بتشجيعه ورعايته ودعمه المادي والمعنوي حتى يواصل مشواره في تدريس الموسيقى لشباب الوطن الموهوبين لأن الثقافة المغلفة بفن تمتلئ ريادة وقيمة وسلاحا وغزوا ومفخرة للأوطنان. وأكبر دليل على ذلك عندما زار الرئيس المصري السابق حسني مبارك المانيا بلد التكنولوجيا والمصانع والحضارة والعلم.. قدموا له «CD» يحمل موسيقى سيمفونية للموسيقار بتهوفن كأعظم هدية تفتخر بها ألمانيا لأن الفن والتراث والثقافة أصدقاء لهم وليسوا أعداء، ونحن أيضًا التراث والفن والثقافة أصدقاء لنا، ومهرجان الجنادرية يشهد بذلك، أتمنى أن تصل بلادنا الغالية بفنونها الجميلة إلى العالمية، ولم لا ونحن في عهد حبيب الشعب عبدالله الذي ملك القلوب فهتفنا له مرددين: نقشنا في قلبنا حبك حبيب الشعب يا عبدالله وكل الشعب بيحبك حبيب الشعب يا عبدالله على درب في كل خطوة ولا نسأل يا حبيب الشعب وهذا المذهب لأغنية وطنية كتبها أخي وصديقي الكاتب والصحفي الشاعر الغنائي هاني ماجد فيروزي - يرحمه الله - ولحنتها في أسابيع التوعية المرورية عام 1408ه، وهي منوّتة وتعزفها فرقة موسيقى الأمن العام في العاصمة المقدسة في المناسبات الرسمية. أخيرًا الشكر لك موصول يا أمير الشباب وصديقهم وأملنا في سموكم الكريم كبير، لأن عطاءكم أكبر.. وأكبر.. وأكبر.. من كلّ هذا.