في بلاد العالم يتم الإقرار بالذمة المالية لكبار المسؤولين بين يدي هيئة متخصصة، يسندها قانون لمكافحة الثراء غير المشروع، وتكون مسؤولة عن الإفصاح والكشف الشفاف، ومَن لا يخضع لذلك فليس له ذمة. وبموجب ذلك يُفصح المسؤول عن حجم ثروته ومصدرها قبل أن يلي العمل، ويتابع بعد ذلك لئلا يثري على حساب الضعفاء، أو يستغل منصبه في تمرير العقود والحصول على الرشاوى، أو عقد الصفقات الوهمية، أو تجييرها لمؤسسات تعود إليه. في البلاد ذات الشفافية يتم الإعلان عن كشف حالات فساد، ومحاكمات نزيهة، ومستقبل قاتم يتهدد الفاسدين، كلما عثر عليهم النظام الذي يوقع بهم -غالبًا- ولو بعد حين! وحين تغيب الرقابة يبدأ الناس يتحدثون في مجالسهم وشبكاتهم الاجتماعية، وهم يقولون: إن ما يتداولونه ليس سوى رأس جبل الجليد، وفي غياب المعلومة تحل محلها الشائعة. المال العام حق مشترك لكل مواطن (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ). وسرقته أخطر من سرقة الحق الخاص؛ لكثرة الخصوم الذين يطالبونه في الدنيا والآخرة، ولأنه يفتح بابًا يصعب إغلاقه للفساد العريض. (المفتش العام) اسم يستغربه الكثيرون، ولا يعنون له معنى، بينما هو رمز للنزاهة والعفة؛ التي تحلى بها (محمد بن مسلمة)؛ صاحب التجربة الطويلة في أخذ الصدقات من الناس، والذي اختاره عمر لمنصب المفتشيَّة والتحقيق، ومقاسمة الأمراء أموالهم. ذكر صاحب العقد الفريد أن عمر بلغه أن أموال عامله على مصر (عمرو بن العاص) قد كثرت، وكان عمر يُرسل الجواسيس على الولاة للتأكد من أدائهم ضمن جهاز مؤسسي مُحكَم فكتب إليه: (بلغني أنه قد فشت لك فاشية من إبل وبقر وغنم وخيل وعبيد، وظهر لك من المال ما لم يكن في رزقك، ولا كان لك مال قبل أن استعملك.. فمن أين لك هذا؟! وقد كان عندي من المهاجرين الأولين من هو خير منك، فاكتب لي وعَجِّل. فكتب إليه عمرو: (فهمت كتاب أمير المؤمنين.. وأمّا ما ظهر لي من مال فإنّا قدمنا بلادًا رخيصة الأسعار، كثيرة الغزو، فجعلنا ما أصابنا من الفضول فيها، والله لو كانت خيانتك حلالًا ما خنتك وقد ائتمنتني، فإن لنا أحسابًا إذا رجعنا إليها أغنتنا، والله يا أمير المؤمنين ما دققت لك بابًا، ولا فتحت لك قفلًا). فكتب إليه عمر:(إني لست من تسطيرك الكتاب، وتشقيقك الكلام في شيء، ولكنكم معشر الأمراء قعدتم على عيون الأموال، ولن تقدموا عذرًا، وإنما تأكلون النار، وتتعجّلون العار، وقد وجَّهت إليك محمد بن مسلمه فسلِّم إليه شطر مالك). فعل هذا عمر -رضي الله عنه- مع العديد من ولاته؛ الذين اشتغلوا في التجارة؛ لأن ذلك مظنَّة محاباة الناس لهم، أمّا مَن يعلم منه اختلاسًا فله شأن آخر! هذا مسلك سلفي أصيل، رسمه الفاروق -رضي الله عنه-، وهو خطة إنسانية ناجحة لجأت إليها الدول؛ لحماية شعوبها من الابتزاز والتسلط، وما يفضي إليه من الفتن والمشكلات، فمتى نجده واقعًا مشهودًا في بلاد الإسلام؟