لازلت في سياق الإجابة عن السؤال الذي لم يطرحه سائق التاكسي القاهري في مقالي السابق، واضطرتني إجابته إلى نظرة سريعة للتاريخ المصري المعاصر، فدواعي هوجة يناير متجذرة فيه، ولن تفهم دون الرجوع إليه.. وضع محمد علي أسس أول دولة حديثة بالمشرق، ولعله سبق بذلك بناتها في تركيا وإيران، وهي ليست من اختراعه، إنما هي الشكل الوحيد المقبول دوليًّا وإنسانيًّا في العصر الحديث، لذلك قلت إن صنيعه كان حتمية تاريخية. دول العصر الوسيط لم تحتج لأكثر من مؤسسات القوة (أدوات الإكراه) لإقامة بنيانها، وكل ما عداها شكليات لجعل الصورة مستساغة للضمير، ثم تغيّر ذلك عندما شرعت المجتمعات في ضبط وتنظيم علاقات القوة. معنى الدولة في الأساس، قديمها وحديثها تنظيمي، تنظيم ما هو تلقائي وسليقي بغرض حماية الحياة الجماعية وترقيتها، ويستحيل استبعاد فكرة القانون من معنى الدولة، إن استبعدت الفكرة سقط المعنى، واقع الأمر أن الدول لا أكثر من تطبيقات لفكرة القانون، ونزول بها من درجة الفكر إلى درجة الإجراءات العملية. يمكنا الآن الكلام عن التحديث الشكلي وتحديث المضمون.. تحديث النشاط الاقتصادي وعلاقات الإنتاج يتبعها بالتدريج تطور الثقافة السائدة في المجتمع، إلا أن ذلك لا يحدث بسلاسة تلقائيًّا، منظومة القانون يمكن أن تساعد عليه أو تعيقه، بدون تحديث حقيقي لمنظومته يظل كل تحديث آخر شكلي، ويتحقق تحديثها عندما تصبح المقولة القديمة المأثورة «الحق فوق القوة» واقعًا عمليًّا، وغير موكول تفسيرها،، أو الاجتهاد فيها للأجهزة التنفيذية، إذا لم تواكب منظومة القوانين تطورات الاقتصاد، وعلاقات الإنتاج الجديدة أحبطت الثقافة السائدة الأثر الإيجابي لهذه التطورات، وسيتيح ذلك فرصًا للانحراف لم تكُ معروفة من قبل لالتهام ثمراتها. كل ضغوط التحديث التي تعامل معها محمد علي ثم خلفاؤه طوال القرن ال19 خارجية، نتيجة لاقتحام تيارات الخارج لعزلة الداخل، وانصبت تحديثاتهم على الشكل، وهذا لا ينتقص من التجربة، لأنه طبيعي ومنطقي، وقننت جرعاته بحيث تخدم مصالح النخبة، إلاّ أنها أيضًا وسعت شريحة النخبة، كما استفاد منها بدرجات أقل ما تحتها من طبقات. النخب في العصر الحديث لا تشبه طبقة النبلاء في العصور الوسطى، فالثانية مغلقة، بينما الأولى مفتوحة للحراك الاجتماعي، ومعايير الانتماء إليها لا تشبه معايير الانتماء إلى الثانية، كذلك الأولى قوة دفع في أغلب الأحوال، أما الثانية فقوة إعاقة، هذا تمييز مهم. في الإجمال كانت نتائج تحديثات القرن ال19 إيجابية، على شكل نمو اقتصادي وحراك اجتماعي، فما إن جاءت عشرينيات القرن ال20 حتى تحولت ضغوط التحديث من الخارج إلى الداخل، في تزامن ملفت مع التطورات التي شهدتها تركيا.. ها قد بلغتُ نهاية المقال دون أن أجيب عن سؤال الأسبوع الماضي، ما الداعي للعجلة، يمكنا الانتظار أسبوعًا آخر.