في كل دولة حللت فيها خلال السنوات القليلة الماضية -وأنا رجل كثير الأسفار- حدثني المثقفون والعلماء والسياسيون بكثير من الإعجاب عن مبادرات خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله- للحوار بين الأديان والثقافات والحضارات، وذهب كثير منهم في دول الشرق والغرب إلى أن هذه المبادرات قد غيّرت كثيرًا من الأحوال التي كانت سائدة من فهم مغلوط للثقافات والحضارات ترتب عليه نفور كبير قد يصل إلى حد العداء بين أهل هذه الثقافات والحضارات، فبعد انعقاد مؤتمرات ولقاءات عدة بدأت في مكةالمكرمة، واستمرت في إسبانيا وأمريكا وسواها سادت روح جديدة من التفاهم والتعايش والمصالحة بين ثقافات وحضارات وديانات ما كان أصحابها ليجتمعوا على طاولة واحدة ويتناقشوا ويتفاهموا بعقلانية وشفافية قبل مبادرات خادم الحرمين الشريفين ومن عجب، فإن العولمة وما بعدها رغم جموح تياراتها لم تحقق شيئًا مما كان يطمح إليه العالم من هذا التقارب، بل إنها على النقيض من ذلك، زادت من النفور والتباعد بين الثقافات والحضارات وقسّمت العالم إلى تكتلات إسلامية وأوروبية وأمريكية وشرقية «من الشرق الأقصى وسواها» ونظر كثير من الناس إليها على أنها «أمركة» ليس إلا، ولعل الثقافة الأكثر استفادة من مبادرات المليك المفدى هي الثقافة الإسلامية ببعديها الحضاري والديني، التي تأذت كثيرًا بعد أحداث 11 سبتمبر المشؤومة وتغيرت نظرة العالم كله إليها بين عشية وضحاها، فجاء حوار الحضارات والثقافات ليبين للعالم كله الوجه الحقيقي للحضارة الإسلامية القائمة على التسامح والعدالة والمساواة وتقبل الآخر واحترام الأديان السماوية الأخرى وتكريم الإنسان والسعي إلى السلام. وعليه، فقد كان طبيعيًا جدًا أن يقلد خادم الحرمين الشريفين ميدالية اليونسكو الذهبية تقديرًا لجهوده -يحفظه الله- في تعزيز ثقافة الحوار والسلام، فخلال زيارة المديرة العامة لمنظمة اليونسكو «إرينا يوكوفا» للمملكة يرافقها نخبة من السفراء لدى المنظمة يمثلون دول فلسطين وألمانيا والبرازيل وبولندا وفرنسا وزيمبابوي قلدت المديرة العامة للمنظمة خادم الحرمين الشريفين ميدالية اليونسكو الذهبية، وهي أعلى وسام تمنحه المنظمة على الإطلاق، تثمينًا لمبادراته العديدة في عقد مؤتمرات ولقاءات دولية في عدد من العواصم العالمية والمنظمات الدولية في هذا الشأن ويذكر أن خادم الحرمين الشريفين قد أصدر موافقته الكريمة العام الماضي على إنشاء «برنامج عبدالله بن عبدالعزيز العالمي لتعزيز ثقافة الحوار والسلام في منظمة اليونسكو» وهذه المبادرات التأريخية لقائد هذه البلاد كانت نبراسًا لكثير من المؤسسات التعليمية والإعلامية والثقافية في المملكة وخارجها لتبني فعاليات تعزز هذا التوجه البناء وتحقق أعلى درجات التقارب بين الحضارات والثقافات الإنسانية. وفي هذا الإطار انطلقت يوم السبت 29 جمادى الأولى 1433- 21 أبريل 2012م، الندوة السعودية الفرنسية لحوار الحضارات في دورتها الثالثة في قاعة الندوات بفندق الهيلتون بجدة برعاية معالي وزير التعليم العالي الدكتور خالد بن محمد العنقري. ونظمت الوزارة هذه الندوة بالتعاون مع جامعة الملك عبدالعزيز بعد أن انعقدت الندوة الأولى في الرياض والثانية في باريس واستضافتها جامعة السوربون. وقد أكد معالي مدير جامعة الملك عبدالعزيز الأستاذ الدكتور أسامة بن صادق طيب في كلمته في افتتاح الندوة أن دعوة خادم الحرمين الشريفين لحوار الحضارات كان من نتائجها البارزة فتح أبواب الجامعات السعودية للتعاون الوثيق مع الجامعات العالمية ومنها الفرنسية فقامت ندوة الحوار السعودي الفرنسي في الشأن الحضاري الذي ترتب عليه توقيع اتفاقيتين مشتركتين لإنشاء كرسيين جامعيين أحدهما كرسي الاقتصاد الإسلامي في السوربون. وخلال يومين، قدمت في الندوة بحوث علمية رائدة في محاور عدة غطت السواد الأعظم من الموضوعات التي تعتبر قواسم مشتركة بين الثقافتين العربية الإسلامية والفرنسية كالترجمة والاقتصاد والدراسات البينية وشارك فيها علماء سعوديون وفرنسيون وكان لأساتذة جامعة الملك عبدالعزيز الحضور الأبرز في الندوة ببحوثهم ونقاشاتهم وكان من أهم الجلسات جلسة الاقتصاد الإسلامي التي رأسها سعادة الدكتور زهير دمنهوري وكيل جامعة الملك عبدالعزيز للتطوير، وأدارها باقتدار، وتعتبر هذه الندوة ولاشك من غراس مبادرات المليك المفدى لنشر الحوار بين الحضارات والثقافات.