في الوقت الذي انتظرت فيه الساحة الثقافية السعودية أن يسود الاستقرار والانسجام محيطها بعد إقرار الانتخابات بديلا عن التعيين في فروع جمعية الثقافة والفنون والأندية الأدبية المختلفة الذي كان سائدًا في الفترة السابقة، جاء واقع الحال مغايرًا لهذا التوقع.. وقد تشكلت مظاهر عدم الاستقرار منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات في الأندية الأدبية تحديدًا، منظورًا ذلك في كثرة الطعون التي تقدم بها عدد غير قليل ممن لم يحالفهم التوفيق في تلك الانتخابات، وتجافتهم ثقة الناخبين، مما دفع بهم إلى الطعن في إجراءات الجمعيات العمومية، والقول بوجود مظاهر للشللية والتكتل، الأمر الذي سعت وزارة الثقافة والإعلام ممثلة في وكالة الشؤون الثقافية إلى تنقية الساحة منه، عبر بنود في اللائحة تحرم مثل هذه السلوك.. ولم تكن الطعون من خارج المجالس المنتخبة هي المؤشر الوحيد الدال على بروز عدم الاستقرار، فحتى أعضاء المجالس المنتخبة دب الخلاف بينهم سريعًا، وعبّر عدد منهم عن عدم رضاه من عملية الاقتراع السري المتبعة في تحديد المسؤوليات داخل المجلس المنتخب وفق المناصب المعروفة من رئيس ونائب للرئيس ومشرف مالي وإداري وغير ذلك من المناصب، وتمظهر عدم الرضا في استقالات من هذه المجالس المنتخبة، لتترك هذه الظاهرة الباب مفتوحًا أمام احتمالات عديدة، حول إمكانية هذه المجالس المنتخبة في إدارة دفة الفعل الثقافي بعيدًا عن التجاذبات التي كانت سائدة في الفترة الماضية.. وأيًا كانت دوافع هذه الاستقالات فإن الآراء حولها تفاوتت، فثمة من يرى أن تضخم ذوات المثقفين وقف حائلا دون قبلوهم للتغيير الكبير الذي حدث، وثمة من يلقي بالتبعة على عاتق لائحة الأندية الأدبية التي فتحت المجال أمام تكوين جمعيات عمومية «مخاتلة» جاءت بمن لم يعرف عنهم سابق جهد في الساحة الثقافية، لتحمله الانتخابات إلى إدارة الفعل الثقافي، بما ينذر – برأيهم – في فرض مزيد من عزلة المثقفين الحقيقيين، وهناك من يلقي بالتبعة على بعض مسؤولي جمعيات الثقافة والفنون ورؤساء الأندية الأدبية بالإشارة إلى ذهنيتهم «عقيمة» و»مزعجة» لا تحفز على الاستمرار في مجالس الإدارات، من واقع «دكتاتوريتها» ونهجها المتسلط.. فتكون «الاستقالة» المهرب والملاذ.. جملة هذه الآراء وغيرها في سياق هذا التحقيق حول تنامي ظاهرة الاستقالات في جمعيات الثقافة والفنون والأندية الأدبية، ومستقبل هذه المؤسسات الثقافية في ظل هذا الواقع.. ديكتاتورية مسؤول استهلالا يرى الدكتور سامي الجمعان المدير السابق لفرع جمعية الثقافة والفنون بالأحساء أنه دائما وراء الاستقالة من أي منصب هناك مسببات ودوافع تجبر المستقيل على ترك منصبه وجهوده لاسيما إذا لم يجد البيئة المناسبة للعمل.. مستدركًا بقوله: بالتأكيد ليست كل الاستقالات وراءها ديكتاتورية مسؤول؛ بل بعضها يأتي بمحض إرادة الشخص، ومن الظلم أن نعمم مسألة الديكتاتورية، بل إن بعض المستقيلين يشعرون بعدم قدرتهم على مواكبة التطورات أو قدرتهم على التجديد، وبعضهم الآخر إنما ينفرون تنفيرًا، ويستبعدون ظلمًا وبهتانًا ويقصون لأسباب تافهة.. ويمضي مضيفًا الجمعان بقوله: أعلم أن توجيه هذا السؤال لي يحمل لغما لأنني استقلت من جمعية الثقافة والفنون بالأحساء، وسأقولها بكل وضوح إنني أحد الذين أنجزوا أمورًا تفوق طاقة فرع جمعية الأحساء وقدراتها والمركز الرئيسي، وهي أمور مشهودة ولله الحمد، كالمبنى المتهالك الذي أخذ من سنين عمري أربع أو يزيد من السنوات كنت خلالها أعمل ليل نهار وبجهد خرافي من أجل أن أوفر لأبناء محافظتي مكانًا يليق بإبداعاتهم في المسرح والتشكيل والتصوير والثقافة عامة والتراث، أيضًا بذلت بذلا خرافيًا على نقل فرع الأحساء من حالة العزلة إلى المشاركة والتفاعل والقبول من مجتمع الأحساء ومؤسساته المدنية، وكانت مكافأتي أن ضيّق عليَّ، وتم استقصادي بشكل مباشر، وتم دفعي إلى الاستقالة دفعًا، وكأن كل ما فعلته وضحيت من أجله عمل من أجل أن يجنيه شخص آخر، أعني إنني أسست لواقع جديد لجمعية الثقافة والفنون بالاحساء على مدى خمس سنوات، وحين جاء موعد جني ثمار هذه الجهود جاءت الدكتاتورية لتتقصد حرماني منها، ولكني أقول بأن التاريخ لا يخفي شيئًا، وسيأتي اليوم الذي أعلن فيه الحقيقة كاملة، فأنا أعد استقالتي بسبب ديكتاتورية مسؤول أغمض عينيه عن أن يرى الحقيقة كاملة، وتجاهل الانجازات الاستثنائية من أجل مزاجية خاصة وتقدير صداقات، فعلى كل مسؤول استثمر فرصة امتلاكه القرار لإقصاء من يختلفون معه في وجهات النظر أو أغراه المنصب ليمارس ديكتاتورية بليدة لا تقدر الجهود ولا تراعي التضحيات أن يعلم بأن كل ديكتاتوريات الدنيا قضت على صاحبها بشكل مذل ومخز. ويختم الجمعان بقوله: أخلص إذن إلى أن الاستقالة أسبابها متنوعة إلا أن أقساها على النفس أن تكون بسبب جور أو ظلم وقع الذين يضحون بالغالي والنفيس، ويبذلون قصارى جهودهم، ويصنعون منجزًا حاضرًا على الأرض في الأوراق والإعلام والوهم. وحقيقة كثير من شبابنا الجميل أقصي بسبب ديكتاتورية مسؤول وليس في الأندية أو الجمعيات فحسب. ذوات متضخمة رؤية الدكتور يوسف العارف حول الاستقالات ضمنها في سياق قوله: في اعتقادي أن من ضمن الأسباب أن بعض المثقفين يكسوهم تضخم الذات وغير قادرين على قبول أي تغيير أو تجديد، وربما لديهم ثقة زائدة وطموح نحو التحرر وعدم الارتهان للواقع المؤسسي، أيضا من ضمن الأسباب اللوائح التي تسير العمل قاصرة عن طموحات المثقفين وعدم القدرة على التعايش مع الواقع الثقافي المتجدد والظواهر الثقافية الجديدة. ويضيف العارف: إن فضاء لعبة الانتخابية أعطى مزيدًا من الحرية للقفز على المعايير والضوابط التي جاءت بها اللوائح، وأرى أنه لا يليق بالمثقف أن يهرب من مواجهة هذا الواقع، وعدم الدخول في عمق العمل الثقافي ليؤكد قدرته على التغيير والتجديد وقبول الآخر والحوار الذي ينادي به المثقف. خلل كبير مشاركة الباحث والكاتب والمخرج المسرحي عبدالرحمن مسفر صاغها بقوله: لا شك أن الهروب وتقديم الاستقالات من بعض منسوبي الأندية الأدبية والجمعيات الثقافية لينذر عن خلل كبير في استراتيجية عمل هذه الجمعيات والأندية، وعدم توفر البيئة الثقافية الخصبة التي تعطي المثقف زيادة في الإبداع، وحضورًا ثقافيًا وتميزًا ملحوظًا؛ لكن عندما يشوب تلك البيئة الثقافية شيء من الكدر والنكد والمحسوبية والسلطة الدكتاتورية فأين تجد الإبداع والحراك الثقافي في بيئة مثل ذلك!! مضيفًا بقوله: جمعياتنا الثقافية وأنديتنا الأدبية تحتاج إلى إعادة حساباتها وهيكلتها واستراتيجيتها بما يخدم العامل والموظف في هذه الجمعيات والأندية، وبما يخدم القارئ الكريم عندما يلحظ من خلال قراءاته وتصفحه لإعمال الأندية الأدبية والجمعيات الثقافية أن هناك إبداعًا ثقافيًا وأدبيًا وممارسة فعلية للعقول المفكرة المبدعة المحبة للتطور الثقافي فيما يخدم ثقافتنا الإسلامية ومجتمعنا الإسلامي وعقيدتنا الراسخة. ولاشك أن هناك عوامل أخرى قد تكون محفزة للعمل وللإبداع ومغيبة عن تلك الأندية والجمعيات الثقافية، فكل الأعمال بأنواعها المختلفة تحتاج إلى التحفيز المادي والمعنوي!! زد على ذلك ميزانية تلك الأندية والجمعيات الثقافية إذا لم تلب تطلعات العاملين بهذه الأندية وهذه الجمعيات وتخدم خططها واستراتيجيتها فهي تولد الإحباط والهروب، لأن أي عمل إبداعي مهما كان صغيرًا أو كبيرًا يحتاج للدعم المادي وبدون المادة يكون العمل يشوبه الفشل!! ويختم مسفر بقوله: وخروجًا من هذه الدائرة أرى ضرورة تطعيم تلك الأندية والجمعيات الثقافية بكوادر ثقافية شبابية محبة للعمل وللإنتاج وللإبداع بعيدة عن حب الظهور والتلميع الإعلامي!! قلق ومشاغبة وبخلاف سابقيه يرى الروائي حسن الشيخ في هذه الاستقالات مظهرًا صحيًا، ويبرز ذلك جليًا في قوله: إن الاستقالات من بعض إدارات الجمعيات الثقافية أو إدارات الأندية الأدبية ظاهرة صحية في إطار العمل المؤسساتي؛ إلا أن هذه الظاهرة الصحية الإدارية لابد أن تكون بمعدلات مقبولة إحصائيًا، ولعل السبب في الاستقالات لا يتحدد في روتين العمل المؤسسي وفي دكتاتورية رؤساء هذه الإدارات، بل له علاقة بظاهرة القلق عند الأدباء.. الأديب أو الفنان قلق دوما، يتطلع إلى فضاءات جديدة دومًا، ويخاف من المجهول، ويرغب في المشاغبة أحيانًا بل ويشعر بنرجسية مفرطة في بعض الأحيان، وكل هذه الأشياء من مسببات الاستقالات الجماعية. كما أن ذهنية بعض مسؤولي الجمعيات وذهنية رؤساء الأندية الأدبية عقيمة، ومزعجة، ولا يمكن التعامل معها بأي حال من الأحوال؛ لأنها عقلية مستبدة تلغي الآخر، ولا تعترف به، وهناك بعض رؤساء الأندية الأدبية تنمي الشللية، وتقصي أعضاء مجلس الإدارة المنتخبين الشرعيين، وتستقوي بالخارج ممن هم خارج إطار مجلس الإدارة، أو الجمعية العمومية، بل خارج الوسط الأدبي، حتى تشاكس بهم وتطرد وتعاقب بعض أعضاء مجلس الإدارة. جمعيات عمومية مخاتلة أما الدكتور عبدالرحمن المحسني عضو جمعية أدبي أبها فيقول: الاستقالة قناعة، والمثقف يحاول دائمًا أن يتلمس حريته في فضاءات أوسع. الانتخابات في الأندية الأدبية خطوة رائعة لكنها لم تسر بطريقة مقنعة لطموح المثقفين الذين طالما نادوا بها، وجاءت نتائجها في الأغلب مخيبة لآمال المثقفين، ولم تتسم بالشفافية والوضوح الذي يجعل منها فرصة لتغيير حر، وقبل ذلك كانت الجمعيات العمومية مخاتلة للوضع الثقافي وانتظم فيها من لا ولم يعرف بهمه الثقافي، وكانت الإجراءات التي اتخذت في تنفيذ الانتخابات إلكترونية في تجربة أولى يفترض أن تكون أكثر وضوحًا، إضافة إلى صمت مطبق من الوزارة عن طعون هي حق المثقفين مما يشي بخلل إن لم تتداركه الوزارة فستكون خسارة المؤسسات الثقافية للمثقفين الفاعلين في البلد هي الرد الطبيعي على تجاهل مطالبهم في التصحيح.