أكتب هذه المقالة وأنا أتأمل نهر النيل وميدان التحرير في آن واحد. أستذكر كثيراً من الذكريات والجولات في ربوع القاهرة، التي تحدثت عنها وعن ثورتها في قرابة عشر حلقات من برنامجي (مذكرات سائح 5)، والذي خصصته عن الثورات العربية. هذا الصباح وبينما أعيش لحظات الذكريات، أُحضرت لي صحف اليوم، ومما لفت نظري في عدد الشروق بتاريخ (23/3/1433ه)، استجواب وزير الداخلية المصري على خلفية أحداث ملعب بورسعيد، وقد كنت وقت الحادثة في القاهرة أيضاً، وتسمَّرت ليلة الحادثة وصبيحتها بين البرامج الحوارية ولقاء مجلس الشعب، ثم تحليلات الراديو. هذا الاهتمام والمتابعة ليس لمجرد حبي لمصر، ورغبة الخير والإصلاح لأهلها فحسب، بل مع ذلك الاستفادة من التجربة المصرية الملهمة لبلاد العرب في مجالاتها الفكرية والاجتماعية. وهو ما سأبينه بعد قليل. وعوداً لما في الصحيفة فإن وزير الداخلية تم استجوابه أربع ساعات في حوار مطول، وعبَّر الصديق المحامي (عصام سلطان) من حزب الوسط أن الحوار كان ساخناً وصريحاً، ومما تم ذكره في اللقاء: أن وزير الداخلية اعترف بوجود مؤامرة في الشرطة المصرية كي لا تؤدي دورها، وأن الداخلية إلى لحظة المقابلة استطاعت استعادة قرابة (60%) من دور الشرطة!. فيما أكد الوزير أن كمية المخدرات التي هرِّبت بغية إفساد الشعب المصري عام الثورة تفوق كمية المخدرات المهربة لمصر قرابة عشر سنوات!. لقد بات من المؤكد وجود المؤامرة على مصر وشعبها، وبات لدى كل العقلاء والمثقفين والمهتمين أهمية التسلح المعرفي والقانوني بكل أبعاده لردع الثورة المضادة. إنني ومنذ رأيت أحداث ملعب بورسعيد في لحظاته الأولى، قلت لمن حولي: إنها المؤامرة، وهذه شواهدها...! والعجيب أن ثمة إجماعا من كل الطوائف والاتجاهات ونوعية المتحدثين عن طبيعة المؤامرة وشكلها واستراتيجيتها بعد الحادثة. وفي ذات العدد من الصحيفة تحدث الشيخ د. يوسف القرضاوي في حوار مطول عن مثلث المال والإعلام والفكر في حركة الثورة المصرية، واستقرار فكر أبنائها، واستيعابهم للمرحلة من عدمه، كل حسب اتجاهه!. والعجيب أنني التقيت الشيخ القرضاوي قبل أسبوعين من هذه المقابلة في القاهرة في مؤتمر (بناء لتكوين العلماء) وكان من الحضور من ينوب عن الجماعة الإسلامية والجمعية الشرعية لأنصار السنة، ووجدت حديثاً راقياً مستوعباً لمتغيرات المرحلة، بشكل يدعو للاطمئنان بشكل جيد للفكر الشرعي بمصر، مع تخوف يظل أقل بقليل من التيار المتشدد المرفوض من كل طبقات المجتمع. إلا أن المفارقة أن الشيخ (صادق الغرياني) مفتي ليبيا، والذي حضر الأسبوع الماضي لمجمع الفقه الإسلامي بمكة، كرر أسفه عن تحرك مثير للمتشددين فكرياً وشرعياً في ليبيا (المحسوبين على المتدينين)، وخطر هذا الفكر على مستقبل البلاد، وحياة الناس. والحال نفسه وإن نسبته أقل قليلاً في تونس، مما أعاق سبيل النهضة والتغيير السياسي، نحو أجواء الحرية والكرامة والعدالة والقيمة التي يفرضها الناخبون، ولو كانت كل بنودها إسلاماً صرفاً، طالما تم اختيارهم لذلك. إن هذه الشكاوى لا يجوز أن تخفى على أحد، فهي ليست متعلقة بثورة أو بغيرها، إنها متعلقة بالإنسان طالما وجد هذا الإنسان، وإنما أبرز ثورة نشاطه وسائل الإعلام وقنوات المال. وقناعتي تتأكد عاماً بعد عام: أن أكبر معيق للتنمية الحضارية في بلاد العرب والمسلمين، التشدد الديني لدى البعض، والدعم اللوجستي المالي والإعلامي لذوي السلطة الديكتاتورية، فهل يعي ذلك رواد الإصلاح قيادات وتيارات في البلاد العربية والإسلامية، ويعملون على إصلاح الفكر الديني المتشدد، ودعم العمل الإصلاحي القويم مالياً وإعلامياً؟! [email protected]