ثارت أشجاني عند حضوري ومشاركتي بالتلاوة في افتتاح حفل وزارة الحج لتكريم بعثات الحج لهذا العام، فقد غاب عن هذا اللقاء الأستاذ الحبيب الغالي وقرة العين الأستاذ محمد صلاح الدين رحمه الله رحمة الأبرار. "الوالد العزيز".. هكذا كنت أناديه وأخاطبه في كتاباتي، فقد كانت تربطني به علاقة وثيقة بدأت في عام 1417ه عندما كنت إمامًا لمسجد أبي بكر الصديق بالبغدادية الغربية وكان مكتبه بجوار المسجد، وحدث التعارف بيننا وزرته في مكتبه، ورأيتُ عجبًا من تواضعه ودماثة خلقه وحبه للخير وأهله. قد يعجز من يريد أن يتحدث عن الأستاذ رحمه الله في مقالة، ولكن أقول وباختصار شديد: كان رحمه الله منظومة متكاملة في الأخلاق، وحديقة مليئة بالأزهار، فخذ من أيها شئت، وهذا لم ولن يحدث إلا بتوفيق الله عز وجل، وقد يندر وجود مثل هذا النموذج الرائع في هذا الزمان. علاقتي بالأستاذ رحمه الله كانت وثيقة جدًا، وتعلوها محبة كبيرة، فمنذ أن تشرفت بمعرفته والتواصل معه وإذا بي أمام قامة عالية، وخُلُق رفيع، وأدب جم، وشخصية غير عادية، فتأثرت به تأثرًا بالغًا، وتعلمت منه الكثير والكثير مما لا أحصيه. في كل لقاء لي معه -وما أكثرها- كنت أرقب أقواله وأفعاله معي ومع الموظفين ومع الزوار والمتصلين، وأتعجب من شدة تواضعه وأخلاقه الرفيعة، وأذكر أنه في أول لقاء لي معه أعطاني كرته ورقمه المباشر ورقم الفاكس وطلب مني أن أقرأ مقالاته وأوافيه بملاحظاتي وتوجيهاتي حيالها!! ومن أنا حتى أبدي ملاحظاتي على كتابات رجل بحجم الأستاذ رحمه الله، حدث هذا وأنا في الثالثة والعشرين من عمري وقد أكون من تلاميذ تلاميذه، وموقف مثل هذا لابد وأن يفعل بي الأفاعيل، وقد يغني عن كثير من المحاضرات والمقالات. كان رحمه الله يخصني بمحبة ظاهرة، ويتابعني بسؤاله باستمرار مع كثرة مشاغله، فإذا غبت عنه فترة من الزمن وإذا بي أفاجأ باتصال منه ويبدأ بجملته المعتادة: (شيخُنا الحبيب.. السلام عليكم)، وهذا من تواضعه الجم، وكريم خلقه ومعشره، وحبه للقرآن وأهله. ومن ضمن أفضاله على كاتب هذه السطور أنه كان من أوائل من حثني وحفزني على مواصلة تعليمي العالي -حتى وأنا على رأس العمل- حتى بلغت مرحلة الدكتوراة، وأذكر أنني جلست معه قبل مناقشتي لأطروحة الماجستير وقرأت عليه المقدمة التي سأقرأها أمام اللجنة لتصويبها لغويًا، فقد كان شديد الغيرة على لغة القرآن، ويغضب إذا سمع من يلحن، وخاصة من بعض خطباء المساجد، وكثيرًا ما كان يحدثني بذلك. كنت أزوره دوريًا في مكتبه الذي بجوار المسجد، وحتى بعد انتقال مكتبه إلى شارع حائل، وفي كل زيارة أدخل عليه وهو في وسط الأوراق والقصاصات والكتب، وإذا بي ألقاه كعادته بشوشًا مبتسمًا يقوم من مكتبه لملاقاتي عند الباب، ولا يتركني أغادر حتى ألحّ عليه، وإذا هممت بالانصراف يصر أن يخرج معي ولا يتركني إلا بعد أن يودعني عند باب المصعد، وأخرج وأنا في قمة الخجل من هذا الكرم اللا متناهي، وأغادر وأنا أحمل الكثير من الدروس العملية التي تلقيتها منه رحمه الله، والتي غرست في نفسي كريم الأخلاق وجميل الصفات. لا أبالغ إذا قلت بأنني بوفاة الأستاذ رحمه الله فقدت جزءًا مني، فقد كان الأخ والأب والموجه والناصح والملجأ بعد الله في كثير من المواقف الصعبة التي قد تمر بي في حياتي، ولا أجد منه إلا رأيًا سديدًا، ونصحًا رشيدًا، وتوجيهًا موفقًا لا يصدر إلا من ذوي العقول الراجحة والنفوس الكبيرة، ومنذ وفاته إلى هذا اليوم لا أذكره إلا وأجد دمعة لا تخطئ طريقها، وحزنًا في القلب لا يخففه إلا الرضا بقضاء الله وقدره. شيئان لو بكت الدماء عليهما عيناي حتى تأذنا بذهاب لم تبلغا المعشار من حقيهما فقد الشباب وفرقة الأحباب هذه خواطر ثارت في نفسي لرجل كريم، تعلمت على يديه كثيرًا من الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة، وجاءت هذه الكلمات وفاء له، ونبراسًا لنا (إن التشبه بالكرام فلاح)، فقد سئمنا الحديث والتنظير عن الأخلاق، وأصبحنا بحاجة إلى التطبيق العملي، وهذا ما يقدمه الأستاذ رحمه الله واقعًا ملموسًا لكل من تعامل معه واقترب منه، (وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين). اللهم أنزل عليه شآبيب رحماتك، وعظيم مغفرتك، ونور له في قبره وأفسح له فيه، واجمعنا به في أعلى الجنان ومنازل الرضوان بجوار الحبيب صلى الله عليه وسلم.