** عندما اتجهت لأول مرة إلى مقر جريدة المدينة بمطابع (الشربتلي) بالكيلو (5) بطريق مكة، حيث كانت الجريدة تصدر من هناك في تلك الفترة.. وبصورة أكثر تحديداً عام (1383ه) كان يدور في ذهني سؤال واحد هو: ماذا ستقول لرئيس التحرير وأنت تقدم نفسك له.. ولما لم تتجاوز بعد الثانية والعشرين من عمرك.. إذا سألك: ماذا لديك حتى تقدمه للجريدة؟! ** والحقيقة أن الإجابة على هذا السؤال كانت مستعصية عليَّ.. حتى إنني كنت أقدم رجلاً وأؤخر أخرى وأنا أركب (التاكسي) متجهاً إلى الجريدة لكي أقابل الأستاذ (محمد علي حافظ) وكان قد تقلد لتوه مسؤولية رئاسة التحرير بعد أن حصل على درجة البكالوريوس في الصحافة من جامعة القاهرة، كما كنت قد قرأت ذلك منذ بضعة شهور.. ** لكن استعصاء الإجابة لم يحل دون القيام بهذه المغامرة.. واقتحام هذا الحصن.. والتعرف على ما يدور فيه.. ومن يعمل بداخله.. ** وعندما أُذن لي بالدخول عليه.. وكان يقف فوق رأس المخرج ورسام كاريكاتير الجريدة المبهر في تلك الفترة الأستاذ (شاكر، لبناني الجنسية) نظر إليَّ الرجل نظرة ودودة وهو يقول: أهلاً وسهلاً.. وانغمس في استكمال المهمة.. وغرقت أنا في متابعة هذا المشهد الجميل.. وكيف يباشر رئيس عملاً فنياً دقيقاً بنفسه.. ** لقد كان الوقت هو الرابعة عصراً.. ولكم أن تتصوروا قدر سعادتي وأنا أغادر مقر الجريدة في الخامسة من فجر تلك الليلة.. بعد أن شغفت بما رأيت وسمعت وتابعت تفاصيل إنتاج صحيفة يومية.. وقد وقف خلف هذا العمل عشرات من الكبار والصغار.. مشرفين.. ومحررين.. وفنيين لنقرأها في اليوم التالي دون أن ندرك حقيقة المعاناة التي تكمن وراء إنتاجها وصناعتها.. ** فبعد المشهد الأول.. ولقائي المختصر مع الأستاذ رئيس التحرير.. وترحيبه بي كعنصر يرغب في العمل بالصحيفة وتعلم مبادئ المهنة على حقيقتها أشار عليَّ سعادته بأن ألتقي بالأستاذ محمد صلاح الدين.. وكان يشغل منصب مدير التحرير التنفيذي في تلك الفترة.. ** ورغم مشاغل الرجل التي لا تعد ولا تحصى.. بين قراءة المواد وتوجيه المحررين ومتابعة سير العمل مع الجميع.. إلا أنه وبأدبه الجم.. وتواضعه النادر.. وخلقه المتميز أجلسني إلى جواره لأتابع كل ذلك.. وبعد أن فرغ لي قليلاً.. نظر إليَّ وقال: ماذا رأيت..؟ كيف ترى العمل الصحفي..؟! متعب.. أليس كذلك؟! ** قلت له.. وأنا (مبهور) بكل ما أرى.. لم أكن أتخيل أن العمل في الصحافة يستغرق هذا الجهد.. وإن كنت قد استمتعت كثيراً بما رأيت.. وسمعت.. وتعلمت..؟! ** نظر إليَّ الرجل بإشفاق الكبار وهو يقول: إذا أنت مستعد لدخول المعمعة..؟! ** قلت له: أرجو ذلك.. ** قال بأبوة الكبار: إذا كان الأمر كذلك.. فأهلاً وسهلاً بك.. ودعنا نراك هنا من الغد.. لكي نتحدث ببعض التفاصيل. ** كان الوقت قد شارف على الثانية عشرة مساء.. وبدلاً من أن أغادر المطبعة دخلت إلى جوفها بحكم الفضول.. وهناك تعرفت على دينمو الحركة الفنية للجريدة الأستاذ (نعمان طاشكندي) رحمه الله.. ولم أغادر المبنى إلا عند ساعات الفجر الأولى وكلي استمتاع بدور (النحلة) الذي كان يقوم به الرجل وبصمت نادر.. وكذلك بدور الأستاذين أحمد محمد محمود وسباعي عثمان رحمه الله في صناعة الجريدة أيضاً.. ** وقبل الثالثة من ظهر اليوم التالي.. وجدت نفسي بعد انتهاء عملي الحكومي بالمفتشية العامة للجمارك بجدة في الثانية.. اتجه إلى مطابع الشربتلي. وقد فوجئت بأن أول الحضور هناك هو الأستاذ الكبير (صلاح الدين) الذي استقبلني هاشاً باشاً.. وقدم لي من النصائح والتوجيهات ما ظللت استحضره طول عملي في المهنة بعد ذلك.. وإلى أن غادرت عكاظ أخيراً في مطلع العام 1428ه.. ** ومهما كتبت عن الرجل الأستاذ.. ومهما تحدثت عن القيم التي تحكم حياته.. وتفكيره.. وعمله.. ونظرته إلى الحياة وتعامله مع الناس.. فإنني لا أستطيع أن أقول كل شيء.. وإن كنت أستطيع أن أجمل كل هذا في القول.. إنه مدرسة في الصحافة.. ومدرسة في الأخلاق.. ومدرسة في التفكير المتميز بالأناة.. واستقراء المستقبل.. حتى إنك تجد نفسك وأنت تجلس إليه في بعض الأحيان وكأنك أمام جامعة في مختلف معارف الحياة السياسية.. والثقافية والاجتماعية والاقتصادية.. والإنسانية أيضاً.. ** وإذا قدر لي في يوم من الأيام أن أكتب يومياتي في مهنة الصحافة التي حببني فيها أكثر وأكثر.. فإن جزءاً كبيراً من تلك اليوميات سيكون عن هذا الرجل الإنسان العملاق الذي علمني وكثيراً غيري.. تفاصيل هذه المهنة وعشقها.. فقد باع (صلاح الدين) نفسه.. وحياته.. ومستقبله كله ثمناً للعمل في الصحافة.. وبالرغم مما أعطاه لها وهو كثير جداً.. إلا أنه لم يأخذ منها إلا العناء.. وكفاف الحال. ** لكن حقوق الرجل الكبيرة والكثيرة علينا.. تفرض أن نقف اليوم أمامه وقفة إجلال.. وأن نطالب بتكريمه بأكثر من صورة.. وبأعظم تعويض ينصفه ويؤكد بأننا مجتمع غير جاحد.. فهو قمة القمم التي يجب أن نحفل بها وأن نشعرها بعظم العطاء الذي قدمه للوطن وأبنائه. ** ومهما قدمنا للرجل.. فإننا سنظل عاجزين عن ايفائه حقه.. لأن عطاءاته الكبيرة والكثيرة تمثل تاريخاً ووجوداً كبيراً لا يمكن أن ينسى.