لا زال العربي يفخر بكرمه وَيُمْدَح بِهِ منذُ الجاهلية الأولى ؛ حتّى خُيّل له بأنّ هذه الصِّفة لم تفصّل إلا كإزارٍ له .. وثوباً لا يحلو ولا يليق إلاّ عليه ، يقول الشاعر الجاهلي : - عمرُ بن أكثم - وكُلّ كريمٍ يتقي الذمّ بالقرى .... وللخير بين الصالحين طريقُ أضفت فلم أفحش عليه ولم أقل .... لأحرمهُ : إنّ المكان مضيقُ لعمرك ما ضاقت بلادٌ بأهلها .... ولكن أخلاق الرجال تضيقُ ! وطالماً مدح الشعراء ممدوحيهم بهذه الخصلة العظيمة - بغضّ النظر عن صدقهم أو منتهى قصدهم فالشعراء في النهاية يتبعهم الغاوون ؛ ويغواهم التابعون ولهم في مدحهم مآرب أُخرى إلاّ من رحم الله ولكن ليست هذه قضيّتنا فالشعر والشعراء في النهاية لهم قواميسهم ونواميسهم ؛ ألم تقل العرب بأنّ : « أعذبهُ أكذبه « ؟!؛ قضيّتنا مفهوم الكرم عند ذلك العربيّ الذي فصّل هذه الخصلة على مزاجه .. واختزلها في جزءٍ وممارسةٍ لا تكاد تُذكَر إن نظرنا للكرم كصفةٍ إنسانيّةٍ عظيمة ومستقلّة - بلغت من عظمتها أنّ الله أطلقها على نفسه تبارك وتعالى « أكرم الأكرمين « ؛ ولكي لا يكون كلامنا مجرّد دردشة تاريخيّة ؛ تعالوا إلى شارعنا السعودي أجمل الشوارع على الإطلاق ؛ ذلك الشارع الذي واجهت فيه قبل فترةٍ من كان يُحدّثني باستغراب عن أنّهُ قابل شخصاً كريماً لا ينتمي لشبه جزيرة العرب وتحديداً ليس خليجيّاً ، دمهُ غير دمنا ورداؤهُ غير ردائنا ولسانهُ غير لساننا ؛ هذا الشخص كان يتكلّم عن الكرم من خلال مفهومه / مفهومنا إكرام الضيف فقط ! فمعادلة الكرم لدينا تكاد تنحصر في كمّ « المفاطيح « ؛ قلّ لي : كم تذبح ؟! أقل لك : كم أنت كريم ! وهذا ما يُفسّر و يُفسّرهُ انتشار ظاهرة ما يفعلهُ بعض جُهّال الأثرياء الذين يتزاحم الشحّاذون من الشعراء على أبوابهم وذلك من خلال تقديم مائدة ضخمة لجمل محاطٍ بعشرات المفاطيح كلّ ذلك في صحنٍ واحد ! ولمَ لا ؟! فقد محوا بهذا الفعل كلّ عيوبهم ومثالبهم الأخرى مهما كبرت ؛ ألم يقل الشاعر الشعبي ( مثل الكرم يمحي عيوب الرجاجيل ) !! - لستُ بضِدّ الكرم ولا يمكن أن يكون لا عاقلٌ ولا « أهبل « ضدّ هذه الصفة بالغة الحمد ؛ لكنّها دعوة لاحترامها أوّلاً وتصحيح مفهومنا عنها ثانياً - فالكرم لا يُمكن أن يكون بقدر ما تذبح وتُريق من الدمّ فقط ! ( الوفاء كرم ، والرحمة كرم ، والعدل كرم ، وحفظ الأمانة كرم ، والنُّبل كرم ، وحفظ الحقوق كرم ، والاستماع للآخرين كرم ، ونجدة من لا تعرف كرم ، ودعاؤك للمسلمين عامّةً كرم ؛ وتمنّيك للخير كرم ، وابتعادك عن الحسد كرم ، وكلّ الخلائق الإنسانية التي حثّت عليها الأديان والمجتمعات وفيها صورةٌ من صور العطاء الحسّي أو المعنوي هي بشكلٍ أو بآخر .. كرم ) ؛ فلا نكونن عراةً من هذه الخصلة إلاّ بما يملأ بطوننا أو ما نملأ به بطون الآخرين فقط !