لا أحد يماري في قدسية المسجد الأقصى، وبركته ومكانته عند الله (تعالى)، فهو آية في كتاب الله، نستفتح بها سورة الإسراء، وهو منتهى إسراء رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وبداية معراجه، وملتقى رسل الله في بيعتهم لخاتمهم، وارثًا للنبوة، ومكملا للرسالات، وهو المسجد الثاني بناءً على الأرض، وهو شقيق المسجد الحرام، ومشد رحال المؤمنين، ولا يتسع المقام للمزيد من الحديث عن شرفه وفضله ومنزلته عند المؤمنين، ومحل ذلك كتب التفسير والحديث والسيرة والفقه والتاريخ. كما لم يعد خافيُا على أحد في زمن القنوات الفضائية، والشبكات الإلكترونية، ما تعرض له المسجد الأقصى، منذ عام 1967م، من محاولات إحراق وهدم وتدنيس، وتغيير معالم، فالحفريات لم تتوقف، والأنفاق أفرغت الأرض من تحته، وتواصلت حتى غدت مدينة يهودية، تضم كل المعالم والرموز التلمودية، والمساجد والمكتبات ودور العلم، والمعالم الحضارية الإسلامية من حوله غدت أثرًا بعد عين. ولم يكتفِ بكنيس تحت المسجد الأقصى، وإنما يجري العمل على بناء كنيس بجواره، هو الأضخم بين الكنس اليهودية، ولا يكاد يمر يوم إلا وتحمل إلينا الأخبار والتقارير طرفًا من الخطة الصهيونية الحاقدة؛ لهدم المسجد الأقصى، وتغييبه عن القدس، وإقامة الهيكل؛ الذي لم يقم دليل على وجوده، على الرغم من أعمال الحفر والتنقيب، المتواصلة منذ أكثر من أربعين سنة. وإذا كانت مكانة الأقصى المبارك غير خافية، والأخطار التي تتهده تستفزَّ كل ضمير حي، فما الذي يحمل العرب والمسلمين على القعود عن القيام بالواجب، إزاء واحد من أعظم مقدساتهم الدينية والحضارية؟، وما الذي يتوجب عليهم القيام به لإنقاذ المسجد الأقصى، أو تعطيل إجراءات هدمه، إلى أن يهيئ الله جيلا أمينًا على المقدسات والأوطان والقيم العليا؟. باختصار شديد، إنه الوهن الذي حذرنا منه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، بالمعنى الذي أثبتته كتب الحديث الشريف: "حب الدنيا وكراهية الموت"، فأصحاب القرار في أمتنا وقطاعات عريضة منها - إلا من رحم ربي- لخلل في عقيدتهم، وفساد في تصوراتهم، يرسخون في أذهان الشعوب، أن إسرائيل بما تمتلك من وسائل قتالية متطورة، ودعم غير محدود من القوة العظمى في العالم، لا تقاوم، ولا حل إلا ما تمليه اعتبارات الواقع. والواقع عندهم ما يقرره أصحاب القوة العسكرية والاقتصادية، فكان هذا الهوان؛ الذي أصبح السمة الغالبة للنظام الرسمي، في ديار العروبة والإسلام، ما خلا المقاومة الباسلة، وقوافل شد الرحال، وهما ليسا موضع ترحيب من النظام الرسمي، بل عامل إزعاج، يسعى هذا النظام للتخلص منه. ونأتي إلى الشق الثاني من السؤال: ما الذي يتوجب علينا القيام به لإنقاذ المسجد الأقصى، أو تعطيل إجراءات هدمه؟.. إنني لا أطالب الشعوب والحكومات بما لا يطيقون، ولا بما لم يُعدوا له، لن أطالبهم بالنفير العام، أو فتح الحدود أما عشاق الشهادة على أسوار القدس؛ لأن جيل الأقصى لم يتشكل بعدُ، والقيادة المؤهلة للنصر ما زالت في عالم الغيب، إنما أطالبهم بالحدود الدنيا، التي هي في حدود استطاعتهم، ولأبدأ بالشعوب؛ التي هي أقرب إلى الشعور بالمسؤولية. فالشعوب مدعوة ودون إبطاء – ولن تعدم الوسيلة إذا صدقت النية- إلى دعم صمود حراس الأقصى، ومجاوريه، والذين يشدون إليه الرحال، من أهل الأرض المحتلة عام 1948م، إن اقتطاع دينار في كل عام عن كل فرد من الأمة؛ لصالح الذين ينوبون عنها في الدفاع عن المسجد الأقصى، ليس بالأمر العسير. ومن شأن هذا الاقتراح، أن يوفر مليارًا ونصف المليار دينار، وهو مبلغ كفيل بتلبية احتياجات أهل المدينة المقدسة، التعليمية والصحية والاجتماعية، فضلا عن أثره المعنوي عليهم؛ لشعورهم أنهم ليسوا وحدهم، وأن لهم ظهرًا يستندون إليه، كما أن مقاطعتهم للمنتجات الصهيونية الصناعية والزراعية يشكل عامل إضعاف لاقتصاد العدو، كما يوصل رسالة إليه، مفادها أن لا سبيل للتعامل مع مغتصبي الأرض، ومدنسي المقدسات، وسفاكي الدماء. أما دور الحكومات، فهو بلا شك أعظم وأشد تأثيرًا، فهي قادرة على إحكام المقاطعة للعدو، ومن يوفرون له أسباب القوة، وهو سلاح أثبت جدواه قديمًا وحديثا، ولا سيما في ظل الانهيارات المالية العالمية، فأي قدر من الجدية الرسمية في استخدام هذا السلاح سيكون بالغ التأثير، وفي الوقت ذاته، فهي مدعوة إلى الاعتراف الواقعي بالمقاومة الفلسطينية، وهو حق كفلته الشرائع السماوية، والقوانين الدولية. وفي الوقت ذاته، تسعى إلى كسر الحصار المفروض على قطاع غزة، باعتباره حصارًا ظالمًا، يتناقض مع أبسط حقوق الإنسان، وحين يتحقق كسر الحصار، وإحكام المقاطعة، والاعتراف الواقعي بالمقاومة، وتسهيل وصول الدعم الشعبي للمقاومة، نكون قد بدأنا بالخطوة الأولى، على طريق إنقاذ الأقصى، وتحرير الأرض والإنسان، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.