ليلة الثلاثاء 16 صفر 1433ه انقطع التيار الكهربائي عن كثير من أحياء شمال جدة قبل منتصف الليل واستمر انقطاعه لما يقرب من ساعتين ولم ينقطع عن البيوت فقط، بل شمل الانقطاع أعمدة الإنارة في الشوارع، فعاشت تلك الأحياء التي تعتبر في مجملها أحياء راقية ساعتين على الأقل من الظلام الدامس، والعتمة المرعبة، وما زاد الطين بلّة أن اليوم التالي وهو يوم الأربعاء كان يوم اختبارات للمدارس والجامعات، وحال انقطاع التيار دون تمكن الطلاب والطالبات من إنهاء مذاكراتهم ومراجعاتهم، ومعروف أن بعضهم يقضي معظم الليل في هذه المذاكرات والمراجعات. كما دبّ الخوف في نفوس الكثير من الناس خصوصًا النساء والأطفال الذين ما اعتادوا أن يعيشوا في ليل بهيم دون أي إضاءة. وكان ملاحظًا أن معظم العائلات ليس لديها أي احتياطات لانقطاع التيار مثل الفوانيس والكشّافات أو حتى الشموع، ولأن الانقطاع كان عند منتصف الليل ما كان ممكنًا شراء أي من ذلك من محلات بيع الأدوات الكهربائية أو سواها، لأن معظمها كان مغلقًا، وروى لي بعض الأصدقاء أنه اتجه إلى تلك المحال على كل حال، ولكنه اكتشف أن ليس لديه (فلوس كاش) وذهب تلقائيًا إلى مكائن الصرف الآلي وهو ناسٍ أنها لا تعمل بدون كهرباء فعاد أدراجه، واكتفى بإضاءة الدرج لأولاده، وربما دورات المياه بنور الجوال. وليست هذه المقالة كمثيلاتها التي تلقي اللائمة على شركة الكهرباء وتسمها بالتقصير والإهمال، ناهيك عما يقال دائمًا عن أن هذه الشركة تتقاضى الأموال الطائلة من المواطنين ثم تقطع عنهم التيار بالساعات كما حصل مؤخرًا. بل هذه المقالة تركز على حقيقة أصبحت ثابتة: أن حياتنا برمّتها باتت معتمدة على الكهرباء، فنحن نأكل بالكهرباء ونشرب بالكهرباء ونتبرّد بالكهرباء ونتحرك بالكهرباء ونتسلى بالكهرباء إلى آخر القائمة، فمعظم مواقدنا في مطابخنا أصبحت كهربائية لأننا نستثقل حمل أنابيب الغاز ونقلها. وفي حال انقطاع الكهرباء لا يستطيع الواحد منا إعداد كوب شاي، كما أن بيوتنا اليوم بها خزانات مياه أرضية وأخرى علوية وما لم يسحب الماء إلى أعلى بماتور كهربائي، فلن تكون لدينا قطرة ماء للغسيل أو الاستحمام أو الوضوء أو الشرب، وإذا كان الواحد منا يسكن في دور علوي كالخامس أو السادس أو العاشر فلن يصل إلى بيته دون مصعد والمصعد يعمل بالكهرباء. أما ثالثة الأثافي وقاصمة الظهر فهي أننا نعيش داخل (علب) إسمنتية شديدة الحرارة صيفًا وشديدة البرودة شتاءً، ولابد لنا من تكييف بارد في معظم الأحوال وحار في بعضها وإلا أصابنا الاختناق داخل هذه العلب التي نعيش فيها والتي صدئت نوافذها التي لا تفتح أبدًا. وهذا التكييف بالطبع يعمل بالكهرباء بل «يشفط» منها الكثير. كما أن اتصالاتنا وأعمالنا ومراسلاتنا وترفيهنا وهلم جرّا، كل ذلك أصبح يتكئ على شبكة عنكبوتية تشبه بيت العنكبوت فعلًا في كل شيء، ليس فقط في تشعبها وتعقيدها ولكن في وهنها وضعفها و»إن أوهن البيوت لبيت العنكبوت» وأكثر نقاط وهنها وضعفها أنها معتمدة على الكهرباء، فإذا انقطعت الكهرباء توقفت حواسيبنا الثابتة، ولم نستطع شحن النقالة منها وكذلك الحال بالنسبة لجوالاتنا التي ما عدنا نستطيع العيش بدونها ولله المشتكى. أقول وبالله التوفيق: إننا أصبحنا أسرى لهذا التيار بل أشبه بالرقيق عنده، ولا يمكن لحياتنا أن تسير بدونه فلو توقف لسويعات خفنا وجعنا وعطشنا وسخنت أجسامنا أو بردت وانقطعت اتصالاتنا والبقية معروفة، لأن كل حياتنا أصبحت صناعية، ولا نعرف كيف أن أجيالا قريبة سبقتنا كانت تعيش آمنة مطمئنة دون هذا التيار الصاعق، ليس قبل ألف عام، بل قبل عقود قليلة ولم تكن فيهم إلا العافية والرضا والعيش الرغيد. وليس معنى هذا أننا ندعو لأن نعود إلى تلك العهود الغابرة، ولكن دعونا فقط نقدّر هذه النعمة التي نعيش فيها، فنحن ننعم بالكهرباء ليل نهار، وصيفًا وشتاءً ولا تنقطع عنا إلا فيما ندر إن كان هناك عطل فني أو أمر طارئ كما حصل في جدة وهو أمر طبيعي، ولنسأل أنفسنا دومًا، هل راعينا الله في استخدامنا للكهرباء واعتدلنا في هذا الاستخدام؟ فكم من البيوت في منطقة شمال جدة وغيرها تضاء فيها أسوار الفلل طوال الليل وفي بعض أوقات النهار بعشرات المصابيح التي تهدر من الطاقة مجتمعة ما يمكن أن يضيء مدينة أخرى كاملة، ولا يكتفي أصحاب هذه الدور أو الفلل بمصباح واحد أو اثنين عند البوابة الرئيسة أو يستخدمون المصابيح التي تشحن بالطاقة الشمسية. وكم من البيوت تترك فيها معظم أنوار الغرف مضاءة وجميع من في البيت نائمون دون أن يكلف واحد منهم نفسه بإطفائها في بضع ثوانٍ، والأمر نفسه ينطبق على المكيفات التي تبقى تعمل على مدار اليوم والليلة في غرف ليس فيها أحد. فللنظر إلى أحوال إخوة لنا في دول مجاورة مثل سوريا التي يقطع التيار عن معظم مدنها المناضلة لأسابيع في جو قارس البرودة وليل دامس الأحلاك. وبغداد التي توصف بأنها بيت العنكبوت لكثرة الأسلاك التي تعتلي بيوتها لنقل الكهرباء من المولدات. ولعل ما حدث في جدة مؤخرًا ولو لسويعات فرصة للتأمل، و»ألا بالشكر تدوم النعم».