نستكمل اليوم مقالاتنا التي انطلقت لإثراء فكرة الحوار والتواصل التي أطلقها منتدى الدوحة للعلاقات العربية والدولية الذي يرأسه المفكر العربي الكبير د محمد حامد الاحمري، والتي حملت عنوان (التعدد المذهبي في الخليج وآثاره السياسية) مؤكدين على ما ذكرناه في الحلقة الأولى من أهمية هذه الحوارات وتوسعها في كل أقطار الخليج العربي حيث تحقق تواصلاً مهماً وتوافقاً أو تنظيماً للاختلاف أو نقداً ايجابياً متبادلاً ، وبقاء جسور الحوار مهم جداً للمنطقة ومصالحها وتعزيز السلم الأهلي والاستقرار الوطني ومواجهة التحديات العاصفة العابرة حول الإقليم أو من خلاله . وهنا تبرز لنا قضية حيوية جداً في تعزيز فكر التواصل وتنظيم الاختلافات القديمة أو المعاصرة وهي التساؤل عن حجم الاعتناء العربي بمدارس وشخصيات الاعتدال الشيعي في ظل هيمنة طاغية للمؤسسة الإيرانية الأيدلوجية وعنفها الفكري والإعلامي المواجه لرؤى الاعتدال ، أو ما تتعرض له هذه الرؤى من حصار مؤسف إثر طغيان الخطاب الشعبوي ضدهم في عهد التثوير الاجتماعي الديني الذي مارسته ثقافة الجمهورية الإيرانية ومؤسساتها الرديفة الضخمة ، والحقيقة أن اللوم هنا لا يقع على طهران ولا قواها المباشرة في المنطقة فهذه فلسفة مشروع ، إنما المسئولية تقع على المؤسسة الرسمية في بعض الدول العربية وعلى المؤسسات الفكرية والفضائيات الإعلامية و ما يوازيها . أما الأولى أي المؤسسة الرسمية في بعض الدول العربية فهي تنشغل بحركة الاستثمار والإثارة الطائفية في مقابل مواسم مواجهتها لإيران ، وهكذا تُصعّد هذه الإثارة وتنخفض في بورصة الصراع الدولي والإقليمي أحياناً على العزف على المكون الشيعي ، دون منهجية فرز أو معالجة كما تقدمها مدارس الاعتدال الشيعي في المنطقة أو فصل الحالة المدنية الشيعية عن فكرة الكراهية الثورية الطائفية لإيران ، في حين أن استدعاء هذه المدارس وترك مساحات حرة لها للتعبير عن هذه القناعات تصب في مصالح الدول العربية الوطنية واستقرارها ، وفي صالح التوائم الإنساني والاجتماعي بين المسلمين وتخفيف احتقانهم الطائفي من خلال ثلاث مسارات مهمة تهتم بها توجهات الاعتدال الشيعي . الأول : هو الموقف من كتلة الكراهية والتكفير التي تختزنها ثقافة التثوير الطائفي ضد الجيل الأول من الصحابة وهي هنا محل نقد وتصحيح وتصويب من تيار الإصلاح والاعتدال الشيعي ، مع ضرورة التأكيد أن هذه المنطلقات تأتي من مدارس شيعية قديمة اعتمدت حركة الطالبيين الأولى ومواقف حركة التشيع العربي التي واجهت صراعا سياسيا مع الاستبداد قبل الانحراف العقائدي الضخم الذي طرأ فيما بعد وخاصة حلقة الانكسار في عام 1514 م في عهد الشاه إسماعيل الصفوي ، وهنا لابد أن يدرك الجميع أن هذه المدرسة لها نظرتها الشيعية المختلفة مع أهل السنة بما فيها ما يرونه من حق الإمامة المتقدمة على الشيخين لعلي رضي الله عنهم أجمعين ، لكنها لاتؤمن ذاتيا بتكفير الشيخين أو تحفيز المظلومية ضدهما وضد إتباعهما واستنساخ الكراهية وهذه قضية مهمة جداً وحيوية في معنى الاستقرار الاجتماعي للطائفتين . الثاني : طبيعة تشكل هذه المنهجيات في أوساطها العربية وحساسيتها من السطوة الإيرانية وما تعرضت له من قمع ومطاردة وبالتالي فهي تنضوي مجتمعيا مع التكوين العربي وهذا لا يعني أننا لدينا عداء مؤصل لأشقائنا الأعاجم من المسلمين بل الأصل تآخينا معهم كما هو الحال مع مسلمي آسيا وغيرهم ، لكن المشكلة في حركة التداخل والتحريف والتعصب القومي الممزوج طائفياً المنتج للكراهية الذي نفذته إيران على مدى العقود الماضية ، والمهم هنا تمرد حركة الاعتدال الشيعي على هذه المنهجيات المظلمة والتقاء طرحه مع التوائم الاجتماعي المؤسس على خلاف سني شيعي سواءً عقديا أو فرعيا بما فيها ما يعتقده السنة والشيعة من ظلم لائمة آل البيت في عهد يزيد بن معاوية ومن تبعه على هذا المنهج الذي أبطله إمام العدالة الأكبر بعد الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز ، لكن هذا الفكر المعتدل لا يعتمد الصراع الديني الأممي مع الشريك الإنساني والتاريخي كما هي منظومة الظلامة الطائفية وبنائها التاريخي المجدد . أما المسار الثالث فهو قضية اعتنائه بمدرسة التنوير الشيعي القديمة والمجددة الناهضة بالعقل لفهم مقاصد التشريع والفكر الإنساني الإسلامي الحضاري ونقد مسائل الظلام والجهل والخرافة التي هيمنت على حراك قطاع واسع من الرأي العام الشيعي من خلال حركة اختطاف متكررة لشرعية المنبر الحسيني وأمانة تبليغ رسالة أئمة آل البيت لتخضع في جزء كبير منها كما أشار إلى ذلك بعض العلماء والباحثين الشيعة لمصالح أو نفوذ أو تقاسمها ، ساعدها فكرة القداسة للعمامة الدينية التي استغلها البعض لنشر الخرافة والتكسب عبر المظلومية . ونختم في الأسبوع القادم بإذن الله .