(1) لا شك أن الذين نهضوا بإقامة الملتقى الثاني للمثقفين السعوديين قاموا بعمل جاد ومنظم يستحقون عليه التقدير والثناء، وبخاصة أنهم يمتلكون قدرًا كبيرًا من الوعي الثقافي وأناقة التعامل وسماحة المنطق، سواء معالي الوزير ذاته أو نائبه أو وكيل الوزارة للشؤون الثقافية د. الحجيلان.. هذه حقيقة لا بد من الإفصاح عنها، عند بداية أي محاولة لمقاربة هذا الملتقى الجميل. (2) .. ولكن ثمة تقاطعات أريد أن يجربها قلمي ونحن نسير سويًا صوب درب الملتقى.. وأزعم أنها ستشكل معا فضاء ثقافيا (بجد).. لعل من أبرزها الإجابة عن السؤال الآتي: «هل أن غاية الملتقى تتجه صوب المثقفين خاصة، أم أنها تنفتح على حاجة المجتمع كله»؟ لأن المؤسسة الثقافية عندما تتجه بأدواتها ومثقفيها نحو المجتمع، فإنه سوف تجده -بطبيعة الحال- فارغًا من مقومات الثقافة وتجلياتها المتعددة.. وعندما تقنع بهذه الحقيقة -منذ البدء- فإن أمامها عملا (جبارا) ومهمة (حاسمة) لا بد من أن تنهض بها إخلاصًا للعمل الذي حثنا عليه ديننا الحنيف، واستجابة لنداءات وطنية ملحة. الحقيقة أن المسألة بهذه الطريقة متسعة كثيرًا لتساؤلات عدة (معقدة).. ولكني عندما أرى -عن قرب- قادة هذه المؤسسة أستبشر على صباحات جديدة لمجتمع جديد. تكون سمات أفراده: «الانفتاح على تجارب الآخرين، الاستقلال الذهني عن سلطة الرموز الأيديولوجية تعليمية أو فكرية ، انتقال الولاء الذاتي للمنظومة الجمعية، الثقة بقدرة الذات داخل المجتمع على اتخاذ دور فاعل في الشؤون المدنية والاجتماعية، الإيمان بأهمية (دور) العلم والشروط الثقافية في انحسار ذهنية الخرافة والوهم والقدرية المتجردة من اعتناق الأسباب الدنيوية، التماهي مع لحظة التراكم المعرفي للحضارة، التفكير وفق منهجية منضبطة تتسم دائمًا بالشمولية واليقين (إذ إن إنسان الثقافة يُفكِّر دائمًا بطريقة شمولية) تتسع لفضاء التجارب كلها التي يمر بها المجتمع.. أشياء كثيرة كثيرة يتسم بها المجتمع المثقف/ الإنسان الحديث». ولكن هل اشتغلنا بجد على إيجاد هذا المجتمع الذي يمتلك -على الأقل- حسًا مقنعًا من الثقافة وشروطها؟؟.. العمل على هذا (الجانب) يحتاج إلى عمل مؤسساتي (ضخم) تقوده وزارة الثقافة والإعلام مع مؤسسات الدولة الأخرى ذات الصلة (المؤسسة الدينية.. التعليمية.. الاجتماعية..)، لأن أي فعل (صحيح) تضطلع بها المؤسسة الثقافية، ثم ترفضه المؤسسة الدينية أو التعليمية فإن مصيره إلى التلاشي والعدم، والارتهان دائمًا إلى اللحظة البائسة المجردة من الأطياف الجميلة للثقافة والمعرفة. ثم هل أن المؤسسة الثقافية في بلادنا أوجدت البيئة المناسبة المحفزة على الثقافة؟! وهل عملت بجد على صياغة خطاب ثقافي مقنع يستطيع أن يتواءم مع الخطابات الأخرى ؟ (على سبيل المثال فكم تظنون نسبة الذين يقرأون في الشأنين الأدبي والثقافي في مجتمعنا..؟ وكم عدد الذين يعرفون موقع النادي الأدبي في مدينتهم، أو يعرفون الأسماء الثقافية الحقيقية التي تزخر بها بلادنا؟ أو يدركون الحالة الثقافية العالمية الراهنة التي جاءت بعد مراحل عديدة من الكلاسيكية التقليدية وإلى الرومانسية.. الواقعية.. الرمزية.. واتجاهات الحداثة -شكليا وبنيويا وتقويضيا- وما بعد الحداثة؟.. لا شك أن نتيجة الاستفتاء ستكون مؤلمة ومحبطة إلى أبعد مدى)، وبالتالي فإن المجتمع يتبنى خطابا - شعبيًا- بعيدًا عن خطاب الثقافة، أو أنه في حالات أخرى نجده لا يتبنى أي خطاب على الإطلاق. ولذلك فإني أزعم أن العمل الثقافي الذي تنهض به المؤسسة الثقافية (ومنه هذا الملتقى الأخير) يجب أن يتجه أولا (وأولا) إلى الجماهير المترامين بكثافة خارج قاعات الثقافة/ الملتقى، الذين يجب أن ينتظروا -قبل غيرهم- توصيات الفعاليات والملتقيات الثقافية.. أما المثقف فإن (المتوقع) منه امتلاك ذلك الوعي الثقافي الذي يستجيب للشروط الثقافية لإنسان الثقافة (التي تحدثنا عنها سابقًا)، والقدرة الفكرية -بعد ذلك- على إنتاج خطابات ثقافية تفصح عن الأنساغ القصية لإنسان هذه الأرض، ورؤيته الخاصة للكون والإنسان والحياة.. المثقف -إذا كان حقيقيًا بالطبع- فإنه قادر على امتلاك ذلك الوعي الثقافي بمفرده (من غير انتظار توصيات المؤسسات الحكومية)، وهذا ما يحدث بالفعل.. عندما ترى هؤلاء النخب وهم قد تجاوزوا واقعهم (الثلجي) المحدد، إلى فضاءات أخرى وجدوا بها (بسهولهم) أمنياتهم الثقافية، إذ هم يحدثونك عن إصدارات (جديدة) ومعارض ثقافية (جديدة)، وفعاليات أدبية (جديدة)، وأحدث الاتجاهات الثقافية، في اللحظة التي يعيشون فيها (رسميًا) داخل واقعهم/ البياض!! صدقوني يا (جماعة الخير).. المثقف لا يحتاج أكثر من (بيئة) مناسبة يمارس فيها إبداعه (قراءة وتأليفا ونشرا وإطلاعا على الممارسات الثقافية).. لا يحتاج أكثر من فضاءات (طبيعية) ليطلق فيها غواياته الجميلة المستحقة. .. أما عن الملتقى فيبدو أني سأرجئ الكتابة عنه إلى اللقاء القادم.. ولن أنسى بالطبع يوسف المحميد -مثقفًا حقيقيًا- غاب منذ الليلة الأولى، وغابت معه كثير من شواهد الدهشة والجمال.. و(حميمية) الثقافة!