(1) لدينا فعاليات ثقافية متنوعة بالفعل (احتفالات تراثية - معارض كتاب - فنون تشكيلية - أمسيات شعرية - محاضرات أدبية وفكرية..)، ولكني أزعم بمحدودية تأثيرها على فضاءاتنا المحلية بتشكلاتها المختلفة، وبندرة مخرجاتها في سبيل إنتاج ثقافة حقيقية تلامس شغاف القلوب الباحثة عن المعرفة، والأرواح المتعطشة للحق والخير والجمال. أزعم أنه في لحظة إنسانية خالصة يمكن إنتاج خطاب ثقافي حقيقي ينهض بالمجتمع عبر آفاق معرفية وجمالية سامية، بتحقق شرطين حاسمين، لا غنى عنهما أبدا من أجل إنتاج ذلك الخطاب المنتظر... (2) أول الشرطين هو العمل على إيجاد قناعة داخلية للفرد داخل مجتمعنا بأن لمعطيات الثقافة الدور الحاسم دائمًا في رسوخ الذات الإنسانية وصناعة حضارة الإنسان التي تكسبه فضيلة خلافة الله له بعمارة الكون الرحيب، فعندما تكون الثقافة في قناعاتنا ترفًا وزيادة وبحسب الوقت المتاح فإن استكناه تجلياتها يتم بسطحية واهنة لا تنفع وتؤثر، بحيث لا يعي المتلقي (المستعجل) لتلك الثقافة الغايات المعرفية للعلوم و(ثقافة) إنتاجها، فلا يجدي أن نمارس مخرجات الثقافة من تقنيات ومخترعات ومعطيات شتى، ونحن لم نستوعب الثقافة نفسها التي أنتجتها، كما لا يجدي أن نختصر الثقافة في خطاب واحد -كالخطاب الديني (المهيمن)- ولا يجدي -أيضًا- أن نرتهن في كل الأحوال لتلقي معارفنا من النخب (دينية - ثقافية - تعليمية..) ونجعل اجتهاداتهم البشرية قناعات صارمة تشكل نظرتنا الثابتة (أبدًا) للكون والإنسان والحياة. (3) أما ثاني الشرطين فهو تحطيم كل السياجات المصنوعة التي حجبت عن مجتمعنا ضياء المعرفة وأشعة الجمال باسم أكثر القيم رفعة وسموا في الحياة (الدين، وهوية الإنسان)، إذ الحقيقة أن الدين الإلهي الحق هو الذي يحفّز دائمًا على المعرفة والانفتاح على تجارب الآخرين، بل إن حضارتنا الإسلامية العربية لم تكن لتزدهر إلا بعد أن تمثلت -بصدق- حرية الفكر العلمي، والانفتاح على المعطيات الحضارية الفارسية واليونانية والهندية قبل ما يقارب عشرة قرون، ازدهرت فيها خطابات الفكر الفلسفي، ومن ضمنها الخطاب العلمي النظري والتجريبي معًا. ولكن الذي يبدو أن معظم معطيات خطابنا الديني -وليس الدين العظيم بالتأكيد- هي التي قادت عقولنا إلى إثبات (واحدية) النموذج، وإلغاء الحوار حول أكثر معطيات ذلك الخطاب أهمية! تلك المعطيات التي تم إدراجها في سياق البدهيات والمسلمات والحقائق المطلقة، بقناعة صارمة من أصحاب ذلك الخطاب، الذين يرون أن الحوار المعرفي الجاد حول قضاياه ومقولاته ورموزه يمكن أن يربك أنسجة من العلاقات الدوغمائية يجب -بزعمهم- الحرص على تماسكها وسلامتها ونمطيتها، لغايات بعيدة عن أهداف المعرفة الخالصة! وبالتالي فقد اصطبغت ثقافتنا كلها بصبغة أيديولوجية لم يعد من الممكن ممارسة أي نشاط فكري أو إبداعي إلا من خلال منظورها الأحادي المناهض للفكر العقلاني الجاد، والذي توارث خطاب خوف الابتعاد عن (الأصول) المقدسة! وإذا حاولنا مهادنة فكرة تحطيم تلك السياجات فإن من الضروري -بشكل عام- إدراك قيمة انسجام الخطابات (وليس الخطاب الديني فحسب) المرتبطة بشكل أو بآخر بفعل إنتاج الثقافة الكلية، فمن الشروط الرئيسة لإنتاج المجتمعات الحضارية المدنية انسجام كافة خطاباته من خلال (اشتغال) جماعي متسق الوظائف والآليات. (وزارة الثقافة والإعلام) -على سبيل المثال- لابد أن تعمل جاهدة (كخطوة أولى حاسمة) على ألا يتعارض خطابها الثقافي مع معطيات الخطابات الدينية والتعليمية التربوية والاجتماعية. ثمة ممارسات ثقافية (جميلة) لدينا تجابه بقليل أو كثير من رفض المؤسسات المنتجة لتلك الخطابات!. وفي هذه الأثناء فألم يحن الوقت بعد لحل (إشكالاتنا) الأبدية حول مشروعية المسرح والسينما والموسيقى والتصوير ومشاركة المرأة في فعاليات الثقافة؟، لأن أي مؤسسة ثقافية حقيقية حفي بها أن تنهض برعاية كل تلك الأجناس الثقافية والفنية، وتشجع كافة أطياف المجتمع الذكوري والأنثوي على المشاركة المتساوية في العمل الثقافي... ألا تلاحظون معي تحول أزهار الفرح والجمال -في الثلاثة عقود الأخيرة- إلى حجارة متصلدة ممعنة في القساوة والعنف.. جاهزة في كل مرة للانطلاق صوب العقول الباحثة عن المعرفة، والقلوب المشرعة للحب ومعانقة الجمال. أما الهوية الإنسانية؛ فقد كانت بالفعل لدينا هوية حضارية إيجابية منتجة قبل أربعة عقود، قادت المجتمع برمته لترسم خطى الثقافة الجادة، كان مجتمعنا خلال تلك الفترة الزمنية يعيش وينمو بشكل طبيعي ومنسجم، بدون معيقات مصنوعة وعلاقات أعيد صياغتها بشكل خاطئ مع رجل الدين والمثقف والمرأة والحياة بشكل عام؟ أتساءل -بأرق- ما هي تلك الهوية التي يزعم أحدنا بين الحين والآخر أنها سمة فارقة في المشهد الاجتماعي لدينا، بل أن هؤلاء (الآحاد المستمرين إلى ما لا نهاية) يبرزون شروط الهوية الواهمة في مناسبات كثيرة.. سلاحًا مسلطًا في وجه الثقافة والتنوير، وفي وجه كل فعل إنساني مشروع، كمن يصنع قفصه بيديه، ويستلذ بتحديد الفضاءات وصياغة النهايات، وتجدنا باسم تلك القناعة الخاصة بالهوية العلوية المزعومة ننتج ذلك الخطاب الفكري المشوه الذي يلغي كثيرًا من الأمسيات الأدبية، ويجرّم كثيرًا من المثقفين، ويحرق أروقة الإبداع، ويقف سدًّا منيعًا أمام غوايات الفنون الجميلة، وباسم تلك الهوية المزعومة الخاصة نمارس الإقصاء في حق الخطابات المعرفية والجمالية التي لا تمل من طرح الأسئلة، وتتماهى دائمًا مع حاجات الإنسان الملحة للبحث عن المعرفة والحقيقة والهوية الإيجابية الحرة المنتجة. (4) فعاليات ثقافية بلا ثقافة لا يمكن أن تسير بنا خطوة واحدة إلى الأمام!!