في مقاله الرائع المنشور في صحيفة الحياة بعنوان «تساؤلات في زحمة المفكرين.. صفة من لا صفة لهم» تساءل الدكتور سعد البازعي عن مفهوم المثقف، ومن يمكن أن نُطلق عليه لقب مثقف؟ وكيف أضحى اللقب علاوة على لقب «مُفكر» سبيلا مستباحا لكل من ابتغى مجدا دون وجه حق، وأراد أن يُضفي على نفسه شيئا من المهابة والمكانة الاجتماعية، وتلك ظاهرة لا تستبين ملامحها إلا في ثنايا المجتمعات الجوفاء، التي يتشدق أبناءها بالمسميات، ويتوقف تفكير أفرادها عند حدود الظواهر من الأشياء. على أن الأمر مختلف جدا وفق إشارة الدكتور البازعي عند من أدرك حقيقة بواطن الأمور، وعمل جاهدًا على تصحيح مساره المعرفي، عبر متواليات متنوعة من التغيير والتطوير والتحديث، حيث أشار إلى أن مفهوم المثقف لدى أستاذ الفلسفة Gary Gutting يعني: «الشخص الذي كرس نفسه للتفكير ليس بوصفه أداة أو وسيلة لتحقيق أغراض عملية، وإنما بقصد المعرفة والفهم»، ويضيف بأن المثقفين هم الذين «يخبروننا أشياء نحتاج إلى معرفتها مثل: كيف تعمل الطبيعة؟ وكيف يعمل المجتمع؟ وما نحتاج إلى معرفته عن ماضينا، كيف نحلل المفاهيم؟ كيف نتناول الأدب والفن؟ كما أنهم يبقوننا في حالة حوار مع العقول الكبيرة في ماضينا». أمام هذا الوصف الدقيق، الذي تماثل معه عديد من علمائنا في مرحلة ازدهار التفكير العقلي خلال مرحلة ماضية، وتماسَّ معه عدد من مثقفينا في الوقت الراهن، يحق لنا أن نتساءل وبشفافية مطلقة: هل كل مَن في الساحة اليوم يُطلق عليه لقب مثقف؟ ناهيك عن وصف مفكر؟ بمعنى آخر: هل كل من كتب مقالا، أو أمسك بريشة، أو نظم قصيدة، أو طبع رواية أو كتاب، إلى آخر ذلك، يمكن أن نُعدَّه مثقفا؟ ألا يحتاج المصطلح إلى ضبط وتدقيق حتى يستقيم الأمر، ونتمكن من النهوض بساحتنا الثقافية إلى مدارجها التي نأمل أن تكون فيه؟. هذا ما عنيته حين أشرتُ في مداخلتي في ملحق الأربعاء الماضي إلى أهمية أن يشارك المثقف العضوي التنويري بحسب تعبير الفيلسوف الإيطالي غرامشي، في نقاشات مختلف الملتقيات الثقافية، باعتباره أحد الفاعلين لعملية التغيير والتحديث المأمولة والمنشودة، ولكونه من القادرين على أن يتفاعل بإيجابية مع مجريات حلقات النقاش خلال تلك الملتقيات؛ وعلى هذا كان انتقادي لعناوين الملتقى التي جاءت في أغلبها استنساخا لعناوين الملتقى الأول، بل إن أحد تلك العناوين قد استأنس الحديث عن الموسيقى والفنون الشعبية بالرغم من أننا كمجتمع ثقافي لا نملك حتى اليوم معهدا متخصصا في الفنون الموسيقية، يهتم بحفظ الموروث الشعبي، ويقوم بتطويره ليتم تقديمه في حلة فنية حديثة، كما يعمل حاليا بجهوده الفردية الموسيقار غازي علي، وكما عمل سابقا بجهوده الفردية أيضا الموسيقار الراحل حامد عمر، ذلك المبدع الذي عمل بصمت المبدعين على تحويل تراثه الشعبي إلى مقطوعات سيمفونية يعزفها المبدعون من كل أنحاء العالم بآلاتهم الوجدانية تحت ظلال قباب الفن والجمال في موسكو وباريس ولندن، وأحسب أننا كنا ولا زلنا في حاجة ماسة إلى نقل تراثنا إلى العالمية، ليعلم الآخر أنّا أهل ذوق وجمال. كم كان أملي أن يدخل المثقفون في عصف ذهني لمناقشة عدد من العناوين الحاضرة على الساحة في الوقت الراهن: كدور المثقف السعودي في ظل المتغيرات المعاصرة، وهوية المثقف المعاصرة مقارنة بهويته خلال العقود السالفة، وطبيعة العلاقة بين المثقف وحركة الشباب، إلى غير ذلك من العناوين التي كانت ستسهم في تفعيل مثل هذه الملتقيات، وستخرج به عن نمطية الشكل الأكاديمي، فالمثقفون ليسوا بحاجة إلى من يُلقي عليهم المحاضرات، وإنما هم بحاجة إلى ورش عمل نوعية تناقش همومهم ومتطلباتهم وتطلعاتهم للمستقبل، هم بحاجة إلى حوار حقيقي مع الجهات الداعمة للفعل الثقافي والحاضنة له ابتداء بوزارة الثقافة وصولا إلى كافة المؤسسات الحكومية والأهلية المتعلقة بالأمر، هم بحاجة إلى ورشة للعصف الذهني لا حفلة للاسترخاء وتبادل الابتسامات. أخيرًا أعرف مسبقًا أن حديثي هذا لن يُرضِ البعض، لكنه سيعبر في المقابل عن وجهة نظر أخرى، لا أعرف حجم نسبتها ضمن أوساط المثقفين، غير أني أستشعر غيابها اختيارًا أو قسرًا عن الساحة، وذلك هو جوهر أزمتنا الراهنة على الصعيد الثقافي بوجه خاص.