أصبحت هذه لازمة مستشرية في مجتمعنا حيث يقال: إن كل شيء ممكن ومُجاب وتحت اليد والمنوال، طالما الجيب عامر، فكما تتصل للحصول على قطعة بيتزا أصبح المبدأ مُطبَّقًا على الكثير من الأشياء والأمور مع الأسف. فكل شيء قابل للوصول، حتى الشهادات والألقاب للمهووسين بالحروف وما يتبعها من مقاعد وتيجان اجتماعية يرتدونها وهم في قمة الزهو المرضي. انظر حولي بين يوم وآخر فأجد الكثيرين وهم على مكاتبهم قد حصلوا على أعلى الشهادات بل ويحتفلون بها دون خجل، وعندما تسألهم يغمغمون ويعطونك أجوبة قابلة للتمدد في كل الاتجاهات. وكان أحدث ما سمعت من ترهات حصول أحدهم على الماجستير في الخدمة الاجتماعية من الأكاديمية البحرية في بلد ما، ولا أعرف إلى الآن ما علاقة هذه بتلك، لا حاجة اليوم للغربة والتعب والسهر على البحث العلمي، الأمر الذي جعلنا نتقافز من بلد لآخر، وخفّف علينا طيب الذكر الإنترنت هذه المشقة، كما لست مضطرًا للتطبيقات العلمية ولا ملازمة الشاشات واعتصار الحواسيب وإعادة ضبط النتائج ومعرفة أين يقع الحرف من بحثك. كله تحت إمرتك بزيارة صغيرة لأحد مراكز الوهم، عفوًا الجامعات التي في حجرة في مكان ما، لتعطيك بعد المفاصلة ما تريد من الشهادات والوجاهة، احرص فقط على جمع المعلوم، وتهيأ بعد ذلك لتزييل كروتك الشخصية بحرف الدال أو ما شئت من حروف فكل أعناقها بين يديك. وتبعًا لقاعدة السوق النهم فقد تكاثرت دكاكين الوهم هذه يومًا وراء آخر، وقد قدر أحد الباحثين وفقًا للشبكة الإعلامية أنها قد أصدرت ما يزيد على أربعة آلاف شهادة مزورة بتكلفة بلغت مئة مليون ريال. ولا أجزم بصحة هذا التقرير، ولكن الحقيقة لا تبعد عنه كثيرًا، نظرًا لما أشاهده حولي يوميًا على كل الأصعدة وفى كل المجالات، حيث شهد المجتمع في السنوات الأخيرة هجمة من المنتفعين من الجامعات الوهمية لترويج ذلك العلم الورقي، الأمر الذي يجعلنا نصرخ بسؤال كبير: أين الرقيب الرسمي من مؤسساتنا العلمية الرصينة، المعنية بمكافحة هذا التدليس العلمي الذي لا ينتج إلا خواء. وجدير بالذكر أن نعرض لبعض الإجراءات التي اتخذت للحد من هذه الظاهرة الهدامة ومنها أن أصدر وزير التربية والتعليم 1429ه قرارًا يمنع بموجبه منسوبي الوزارة من وضع لقب (دكتور) قبل أي اسم إلا من كانت شهادته معتمدة من قِبل وزارة التعليم العالي. كما ناقش مجلس الشورى قبل فترة مقترحًا من د. الرويلي موضحة أسبابها المتمثلة في الفراغ النظامي وغياب الرقيب والقبول الاجتماعي والرسمي، وأعتقد أن تزييف العلم يعد من أخطر أنواع التزييف، لأنه يستهدف الإنسان وهو أساس المجتمعات، لأن تزييف الفكر تعني اهتراءه وتخلفه. إلا أن الشورى لم تخلص إلى نتائج واضحة في هذا المجال وأرجعته إلى القبول والمساندة الاجتماعية، وكلنا نعلم أنه لولا القبول الاجتماعي غير السوي لما تفاقمت هذه الظاهرة ولكن التشخيص لا يكفي بل العلاج الجذري، لذا سوف أطرح بعض المقترحات التي قد تحد من تغلغل المزيفين في المجتمع والذي يتمثل في: - تجريم هذا الفعل أولًا فهو تزييف لا يقل عن تزييف العملة بل أسوأ منه. - نشر أسماء الجامعات الوهمية في كل الصحف الرسمية وفي الجامعات وكل المؤسسات الحكومية وإلحاقها بتعميمات مشددة عن عواقب تقديم شهاداتها إلى أي جهة عمل. - يجب التأكيد على مؤسسات التدريب الأهلية وكل قطاع التدريب الخاص والعام على تجنب حاملي هذه الشهادات واستبعادهم من برامجهم. ولعل أهم إجراء -في اعتقادي- والذي سوف يحد إلى درجة كبيرة من التزييف العلمي هو إيجاد هيئة للتخصصات العلمية تتبع وزارة التعليم العالي، يحصل منها حملة الشهادات العلمية على بطاقة اختصاص موثقة وربط القبول في كل مجال عمل أو تدريب أو مكاتب استشارات بالحصول عليها أسوة بهيئة التخصصات الصحية والتي تقوم بدور فعال وهام في هذا المجال، ونتطلع أن تقوم وزارة التعليم بتفعيل مثل هذه الهيئة. أما معرفة أسماء الجامعات الوهمية فهو متاح على النت، كما أنها لا تبخل بأسماء خريجيها فلا تتفاجأوا كثيرًا.