الربيع العربي لم ينته بعد وليس من المرشح أن ينتهي الآن، قد يتوقف لفترة من الزمن ولكنه مستمر حتى يشمل أكثر الدول العربية بل بعض دول الشرق الأوسط ما خلا الكيان اللعين، هذا ما أتوقعه والمقادير بيد الله يصرفها كيف يشاء. وما زلت على موقفي القديم والذي تحدثت عنه في أكثر من مقالة من أن هذا الربيع مزيج من حاجة شعبية إلى التغيير وصناعة استخباراتية غربية، وفي كل يوم يجتمع لي من الشواهد مالم يكن لدي في اليوم الذي قبله. وسوف يكون الإسلاميون القادرون على التكيف مع واقع الهيمنة الغربية والأمريكية على وجه الخصوص هم خيار الغرب في كل بلد تنجح فيه الثورة، ولذلك اسباب وشواهد أرجي تفصيلها إلى مقام آخر. وبعد نجاح الثورة الليبية كثر السؤال من المحبين الناقدين: عن سر بقائي على موقفي الأول رغم هذه النجاحات التي حققتها الثورات، وما الفرق بين الثورة السورية التي لم أنفك مؤيدا لها منذ انطلاقها وبين غيرها، وعن سبب صمتي حول ما يجري في ليبيا، فرأيت أن ألخص كل ذلك في هذه المقالة: الشعوب عندما تكون ساكنة لا يشجعها على الثورات ابتداءً إلا مدعٍ علم الغيب أو مغامرٌ بأمته أو أحمق أو متحامق، هذا خُلاصة رأيي في أصحاب الأصوات التي تتصاعد هذه الأيام مطالبة الشعوب بالانتفاض على حكامها. وليس ذلك رضًا بما عليه وضع غالب الحكومات العربية اليوم من الاستبداد والقهر لرعاياهم واستنزاف ثرواتهم فيما لا يخدم مستقبلهم ولا يُحقق لحاضرهم ما يرفع شأنهم بين الأمم. بل إن من يؤيد القمع والاستبداد ونهب الثروات ويقف مع فاعليه فعليه من عار الخيانة بقدر موقفه وإن زعم اجتهادًا أو تأويلا، لأن الإفساد في الأرض مما هو معلوم تحريمه من الدين بالضرورة، وإذا لم يكن الظلم والاستبداد أعظم أنواع الإفساد فما هو أعظمها؟ لكن بغضنا للظلم لا يعني بحال الدعوة إلى زج الشعوب في غياهب المجهول وليس معهم سوى سلاح السَخط على واقعهم وبعض الشعارات الجميلة التي لا يَملكون هم أو أحدٌ ممن يدفعهم نحو الثورة تصورًا لتطبيقها في مستقبلهم. نجحت الثورتان التونسية والمصرية في وقت قياسي ودون خسائر تُذكر في إزالة الحكم السيء الذي كان الشعبان يعيشان تحت وطأته، وفي غمرة الفرح لم يسأل أحدٌ نفسه كيف نجحت هاتان الثورتان، ولماذا نجحتا مع أن كل ما يُحيط بالواقع العربي المرير يثير العجب من سرعة هذا النجاح وقلة تكلفته، وكان تقصيرًا واضحًا من المفكرين العرب حين لم يطرحوا أمام الشعوب العربية سوى سبب واحد للنجاح توهموه وأوهموا الشعوب به، حين قالوا لهم: إن الغرب والشرق لا يستطيعان الوقوف أمام إرادة الشعوب، وأن مصلحة الغرب مهما عَلَت مع نظام من الأنظمة لا تتغلب على كلمة الشارع حين يحتزم بالشجاعة وينادي بأعلى صوته (الشعب يريد إسقاط النظام). وكان أول من صدَّق ذلك هم أهل فلسطين وبخاصة جزؤها المحتل عام 1948م لكن آلة الإعلام المملوكة لليهود لم تتركهم حتى يستكملوا تصديق أنفسهم وأنهم شعب له كلمته التي يجب أن يقولها كما فعل شقيقاه التونسي والمصري، فعطل أباطرة الإعلام آلتهم العظيمة التي حققت التداعي نحو الثورات وهي مواقع التواصل الاجتماعي التي كانت هي الوسيلة المباشرة لحشد الجماهير وتعبئة المشاعر ونشر الشعارات، وأُجهِضت الثورة الفلسطينية في مهدها بالسلاح نفسه الذي نجحت به ثورتا تونس ومصر، سلاحٌ واحد استُخدِم هناك لإيقاض الثورة واستخدم في فلسطين لإماتتها. ولم يَضع المفكرون العرب أيَّ علامة استفهام عند هذا السطر من سطور قصة الربيع العربي، ومرَّ الحدث كأن لم يكن، لِيَستمر تأجيج المثقفين العرب لشعوبهم قبل أن ينتظروا عمَّ تُسفِرُ عنه الأحداث في التجربتين الأُوليين. وأراد الشعب العراقي فعل الشيء نفسه ولكن هيهات، لستم معنيين بالأمر، هكذا قيل لهم. وصَدق الشعب الليبي ماحكاه لهم المثقفون من أن دول الغرب تضعُف طُمُوحاتها وتتراجع مُخَطَّطَاتها حين تشاهد الشعب وهو يهدر في الشوارع كسيل أعالي الجبال عارِيَ الصدر ينادي بالحرية ولا شيء غير الحرية، فخرجوا مُسرعين من شرق بلادهم يطالبون بإسقاط النظام الذي لم يعمل في حياته خيرًا لهم قط، محَمَّلين بفتوى ثمينة بإهدار دم الرئيس، لكنهم صُدِمُوا بالآلة العسكرية المخيفة وكأنها لم تُدَّخر إلا لضربهم طيلة نيف وأربعين عاما، فطلبوا من الغرب حماية أجوائهم، أجوَائَهم فقط من طيران إخوانهم الذين غَرَّر بهم النظام، وهم وحدهم يتكفلون بالباقي وسوف يُشرقون في يوم قريب على مضارب القذافي لينفذوا فيه حكم الإعدام الذي طالما أذاقه أبناء شعبه.