ما أن يحلَّ موسمُ الحجِّ، حتى تصبحَ جميعُ المرافقِ العامة والخاصة في بلادنا في حالة تأهب، وما ذلكم إلاّ لحرص المملكة العربية السعودية -ملكًا وحكومةً وشعبًا- على الوفاء بعهدها في خدمة الحاج، ورعايته، والسهر على راحته، إلى أن يعود إلى دياره سالمًا غانمًا كيوم ولدته أمه. *** وقائد هذه البلاد -يحفظه الله- تخيّر من بين ألقابه الكبيرة العديدة لقبًا تشرّف به ملوك هذه الدولة المسلمة منذ عهد مؤسسها الملك عبدالعزيز -رحمه الله- وهو لقب (خادم الحرمين الشريفين). وإن يكن قائد هذه البلاد يتشرّف بخدمة الحرمين، فإن رعيته لتقتدي به في هذا الشرف، وفي هذه الخدمة، وخاصة أبناء الحرمين الشريفين. عُرف عن سكان الحرمين منذ فجر الإسلام حبّهم وحرصهم على خدمة الحاج. ورغم تغير الأزمان، ورغم امتهان الكثير منهم في العصر الحديث لمهن علمية وفنية رفيعة طوال العام، إذ منهم الطبيب، والمهندس، والمعلم، إلاَّ أنك تجدهم جميعًا في فترة الحج، وقد شمّر كلٌّ منهم عن ساعديه، وأدلى بدلوه في ميدان الشرف الكبير العظيم، ميدان خدمة الحاج. ومن الأمور اللافتة، أن الكثير من أهل الحرمين، قد يكونون في أوضاع مادية مريحة، وليسوا في حاجة إلى أي أموال تدرها عليهم خدمات الحج المختلفة، ولكنهم مع ذلك يحرصون على أن لا يفوتهم ذلك الشرف، وحين تسأل الواحد منهم -ممّن يعمل في الطوافة أو سواها- عن سبب إصراره على خدمة الحاج، تجد عنده جوابًا شافيًا، إذ يحدّثك أول ما يحدّثك عن الأجر العظيم الذي يبتغيه عند رب الحجيج، كما يحدّثك عن تراث الآباء والأجداد، وعن تاريخ البلدين الكريمين، وسكانهما، ومسيرة مئات السنين في خدمة الحاج ورعايته. ويذهب المثقفون منهم إلى أبعد من ذلك، حين يحدّثونك عن أن خدمة الحاج كانت قائمة في مكةالمكرمة قبل الإسلام، فالعرب كانت تحج إلى مكةالمكرمة منذ عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكانت مكةالمكرمة مقصدًا لهم من قبل بعثة النبي الأميّ صلى الله عليه وسلم. لذلك فإن خدمة الحاج في هذه المنطقة المباركة قديمة قِدم التاريخ، وراسية رسوّ الجبال، ومتأصلة في دماء أهل مكةالمكرمة والمدينة المنورة -زادهما الله تشريفًا وتعظيمًَا-. وكما حدّثني بعض الإخوة العاملين في قطاعات مختلفة من قطاعات خدمة الحجيج أن الواحد منهم في كل عام يفكر في ترك عمل الحج، إمّا لانشغاله بأعمال أخرى كثيرة، أو لكبر سنّه، أو لتعبه ومرضه. ويكاد يعزم على ذلك في بعض الأحيان، ولكن، وما إن يقترب شهر ذي القعدة حتى يحس بدافع داخلي في نفسه، يستنهض همّته، ويحثّه على المضي قُدمًا في عمل دأب عليه آباؤه، وأجداده، وعمل فيه منذ نعومة أظفاره؛ فيعود إلى عمله مهما كانت طبيعته، وقد نسي كل المشقة والتعب اللذين واجههما في سنة ماضية، وما ذلك إلاّ تسخير من الله تعالى لسكان البلدين الكريمين للقيام بشرف خدمة الحاج ضيف الرحمن. وفي هذا التسخير الإلهي، يكون الكسب المادي آخر ما يفكر به سكان الحرمين في خدمتهم للحاج، فيمنّ الله عليهم بالأجر والأجرة. وقد اضطلعت حكومة المملكة العربية السعودية بهذا الشرف وهذه الخدمة منذ تأسيسها على يد جلالة الملك عبدالعزيز -يرحمه الله- وإلى عهد خادم الحرمين الشريفين -يحفظه الله- فتجد كل أجهزة الدولة ووزاراتها مجندة في هذا الموسم العظيم لخدمة ضيوف الرحمن. وترى لكل وزارة أو جهة حكومية خدمات خاصة بالحج، إضافة إلى مهامها الرئيسة الاعتيادية التي تقوم بها طوال العام. وتعمل كل تلك الجهات بطاقتها الكاملة في فترة الحج في سبيل تقديم أرقى خدمة ممكنة لضيوف الرحمن. ولا تتردد كافة الجهات الرسمية وسواها في تسهيل مهام موظفيها للقيام بأعمال إضافية خاصة بالحج، تحقيقًا لأهداف المملكة العظيمة في تقديم أفضل الخدمات لضيوف الرحمن.