سأكتب هنا مستفيضًا فيما لم أكن لأستفيض فيه، فلست ممن يتحدث عمن قضى إلى ربه، قد أقفل كتابه، وبقي له من عمله ثلاث شهد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له. إنما لتوقفي برهة، متعجبًا من اجتماع حالتين متناقضتين، كتناقض الليل والنهار. شاء الله عز وجل أن يرينا شيئًا من عجائب أحوال الناس، في قمتين قضوا إلى الله في يومين. قمة من الخير، وقمة من الشر. قمة بلغت عنان السماء، وسكنت قلوب البشر. وقمة زاغت في الأرض، وأبغضتها قلوب البشر. شخصان، أحدهما أعطى بحب لكل من قصده من المسلمين، وجعلهم ينامون قريري العين آمنين مطمئنين. والآخر، حارب المسلمين، وكدر عليهم نومهم وأمنهم، وشردهم وسفك دمائهم، وأنكر السنة. موكبان يسيران، كلاهما جنازة، والفارق بينهما أكبر من الفرق بين الثرى والثريا. فالموكب الأول: موكب الشرف والعزة، سلطان بن عبدالعزيز رحمه الله.. ترفعه أكتاف الرجال، يتدافعون كل يحاول الوصول إلى شرف وضعه على كتفه. والموكب الآخر: موكب المهانة والذل، معمر القذافي.. يرمى في صحراء قاحلة، كجيفة تلقى بعيدًا حتى لا تؤذي الناس. إن الذي استوقفني في هذا المنظر، حديث عَنِ أَنَسٍ رَضِيَ الله عنه، قَال: مَرَّتْ جِنَازَةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا بِخَيْرٍ حَتَّى تَتَابَعَتِ الْأَلْسُنُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَجَبَتْ. قَالَ: وَمَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ، فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا بِشَرٍّ حَتَّى تَتَابَعَتِ الْأَلْسُنُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَجَبَتْ» فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّه، قُلْتَ فِي الْجِنَازَةِ الْأُولَى حَيْثُ أُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا: وَجَبَتْ، وَقُلْتُ فِي الثَّانِيَةِ كَذَلِكَ، فَقَالَ: «هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا، فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ شَرًّا، فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، إنَّكُمْ شُهُودُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا.. ولا نزكي على الله أحدًا. محمد كده الكثيري - جدة