إن الأحداث المؤلمة التي تشهدها المنطقة العربية، من سفكٍ للدماء، وترويعٍ للشيوخ، وتشريدٍ للنساء، وتجويعٍ للأطفال، وهدمٍ للمساجد وهم في داخل أوطانهم، وداخل غرف منازلهم، وبأيدي إخوانهم، لأمرٌ يحتم علينا أن نرفع أكفنا بصدق، داعين المولى عز وجل أن لا يحرمنا نعمة الأمن والأمان، وأن يحفظ علينا بلادنا، ويؤلّف بين قلوبنا، فهذه النعمة العظيمة لا يشعر بقيمتها إلاّ مَن أخذ يفكر بعقلانية في المشاهد المروّعة التي يراها يوميًّا على شاشات الفضائيات، فيرى الدماء تسيل في الشوارع، ويسمع صريخ الأطفال، ويشاهد الأمهات الثكالى، فينظر إلى ابنته بجواره، ويراها تضحك وتلعب، وتذهب وتجيء، فلا يملك إلاّ أن يحمد الله على نعمة الأمن والأمان، وينظر إلى أمه، وإلى تجاعيد السنين التي تكسو وجهها وهي تجلس آمنة على سجادتها تعبد الله في طمأنينة، فيحمد الله وينظر إلى والده والفرحة ترتسم على محيّاه يلاعب أحفاده، فيحمد الله ويتأمل الإنسان نفسه، وهو ذاهب إلى المسجد في كل وقت يؤدي فرائضه بحرية تامة، فيحمد الله على نعمة الأمن والأمان. فهذه الشعوب الثائرة إنما خرجت باحثة عن الأمن والأمان، بعد أن رزحت دهورًا تحت الظلم والطغيان، وسُلبت حقوقها حتى في المأكل والمشرب والمنام، بل لم يأمنوا حتى على إيمانهم، فمنهم مَن يُصلي وهو خائف ومنهم مَن يصوم وهو واجف، فلمَّا ضاقت بهم الحال ضحّوا بأرواحهم من أجل استرداد الأمن، وحتى يبيتوا في أمان.. لكن إذا كان الإنسان يتدثر بعباءة الأمن والإيمان، فهل من الحكمة أن يخلعها، جارًّا نفسه وأهله ووطنه إلى التهلكة من إراقة الدماء وترويع الآمنين؟! هذه هي السذاجة السياسية بعينها، التي تتمثل في التقليد الأعمى، والجري اللاهث خلف شعارات الحرية المفقودة، والحقوق المسلوبة، والإنسانية المهدورة، مع الجهل المطبق بمعنى الحرية، ومعنى الحقوق، ومعنى الإنسانية.. هذه الشعارات البراقة التي تشحن حماس الشباب، ويرون في الغرب قبلتهم في تحقيقها، ومرشدهم نحو تطبيقها، فيعتنقون مذاهب غربية بعيدة عن ديننا، وعن واقعنا، فيقعون في التخبط.. ليتهم يتابعون النشرات الإخبارية اليومية، ليعرفوا زيف تلك الشعارات، فها هي أوروبا وأمريكا تئن من تخلخل اقتصادها، وأثر ذلك على مجتمعاتها، وكيف أخذت تسلب الحريات، وتهضم الحقوق، ولعل احتجاجات وول ستريت بنيويورك بأمريكا التي أخذت في التوسع لتصل إلى واشنطن، خير مثال على فشل تلك المذاهب المنادية بالحرية والمساواة، وكفالة حقوق الإنسان، إذ إنها فشلت في تحقيق الأمن والأمان لشعوبها، فخرجوا إلى الساحات منددين بأوضاعهم المتردية، بل إن بعضًا من الدول الأوروبية عمدت إلى تسريح آلاف الموظفين من أعمالهم، وألقت بهم على قارعة الجوع، دون احترام لإنسانيتهم، كما باشرت بتقليص الرواتب غير عابئة بحقوقهم، وأصوات الشعب تكشف الوجه الزائف لدعاة الحرية والحقوق بأن هذه السياسات تصب في صالح الطبقة الغنية على حساب الأفراد الكادحين. إن دول الغرب ليست هي المدن الفاضلة كما يعتقد شبابنا، ففيها من المشكلات، وكبح الحريات، وهضم الحقوق، ما أخرج شعوبها محتجة إلى الشوارع والساحات، ما يجعلنا نقول بكل ثقة: الحمد لله على نعمة الأمن والأمان. نعم كلنا يسعى نحو الأفضل، ونحو الأرقى، وكلنا يطمح إلى اكتمال خطوات الإصلاح، وأن نكون من الأمم المتقدمة التي تسود العالم، وهو أمر لا ينكره عاقل، ومطلب لا يغفله حكيم. فالإصلاح سيكتمل -بإذن الله- حيث خطت قيادتنا خطوات هائلة نحوه، فظهرت نتائجه في مواقع كثيرة، لكنه لن يكتمل إلاّ بلُحمة هذا الشعب وتماسكه والتفافه حول قيادته. ولن يكتمل -أيضًا- إلاّ إذا بدأنا بإصلاح أنفسنا، وتطهيرها من جميع أنواع الفساد، وأوله إصلاح علاقتنا مع الله، ثم علاقتنا بوالدينا وأهلنا، وجيراننا، وجميع أطياف المجتمع، وبالتزامنا بالأمانة والإخلاص في علمنا وعملنا، وبشيوع الرحمة بيننا، فيرحم كبيرنا صغيرنا، وغنيّنا فقيرنا.. فكيف نطالب باكتمال خطوات الإصلاح، وفينا مَن لا تعف يده عن اختلاس المال، بل والاحتيال على ذلك حتى يحله لنفسه؟ كيف نطالب باكتماله وأكثر تجارنا يرفعون الأسعار على المواطنين دون خوفٍ من الله؟! كيف نطالب باكتمال خطوات الإصلاح وفينا مَن يعق والديه، ويقطع رحمه؟ وفينا وفينا.. ثم ترى هؤلاء هم أول مَن يرفعون عقيرتهم مطالبين بالإصلاح!! على شبابنا أن يتعقل، وأن لا تأخذه حماسة الشباب إلى التقليد الأعمى، فيشحن فكره بصور مظلمة وسوداوية عن وطنه، ثم يعتقد أنه هو المنقذ والمصلح الذي على عاتقه يقع عبء الإصلاح، ويتصور نفسه ناشطًا حقوقيًّا سوف يُشار له بالبنان، ويظل يغرق في تلك الأوهام حتى يرى السجن جنَّة، والموت شهادة، والحياة بلا نضال حياة بلا كرامة، على هؤلاء أن يتعقلوا، ويتركوا تلك الأوهام، فالظروف والملابسات تختلف من بلدٍ إلى آخر، وليوجهوا حماسهم هذا نحو بناء أوطانهم، وتحقيق العدل باعتدالهم. اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم انصر إخواننا في كل مكان، وارزقهم نعمة الأمن والأمان.