فتح تصريح السيد أردوغان في زيارته الأخيرة لمصر عن (علمانية الدولة) ملفاً طالما كان مقتضب الطرح، محصور التناول، متطرف التحليل، عن نظرة الحكم للتيار الإسلامي. الكثيرون وقفوا عند عبارة (أردوغان) الزعيم الإسلامي البارز والملهم للكثير موقف الحذر، بل الرد جملة وتفصيلاً من البعض الآخر، إلى أخذ العبارة مأخذ الجد من طرف ثالث، وأنها المخرج للأزمات التي ستواجه الإسلاميين إن تولوا الحكم. قبل أن نقف عند هذه العبارة ومكنوناتها، لا بد أن نقف عند مسألتين مهمتين. الأولى: تجربة الإسلاميين في الحكم ابتداءً، والثانية: تطور التيار الإسلامي في تركيا (خصوصاً) للوصول للحكم. أما عند الحديث عن التجربة الإسلامية في الحكم فما أمامنا اليوم سوى حالة وحيدة تامة في السودان، فهي من طرف حالة ناجحة في الحفاظ على الهوية الإسلامية بشكل عام، وسد قوي في أفريقيا بلغ في الفترة الأخيرة مبلغ التحدي لنظرائه في الجانب العسكري المحلي والمتطور، لمن لديه متابعة لهذا التطور.. ولكنها في المقابل تأخرت كثيراً في الجوانب التنموية، ولم تستطع حل بعض كبرى مشكلات المجتمع الاجتماعية والاقتصادية، بل وحتى بعض التربوية خاصة مع وجود الجامعات المختلطة!. والمقصود هنا ليس التهويل أو التهوين، بل الوقوف عند مكامن التأثير التي تنفع المجتمع، لا ما ينفع القيادات، ونظام الدولة كدستور فقط. ثم الأهدأ حراكاً هي التجربة الماليزية، وهي نموذج قوي وراق في فكرة المشروع النهضوي الاجتماعي والتعليمي والاقتصادي، داخل ماليزيا، ولكنها حالة تعتبر رغم أهميتها في دراسة التطور المدني، خاصة ببلدها، وأسباب ذلك كثيرة، من أهمها البعد الجغرافي عن قلب الأحداث في الوطن العربي، وطبيعة تنوع الماليزيين عقيدة وفكراً ونمطاً اجتماعياً. وبقي أن نأتي الآن على تركيا، والتي من المهم أن نؤكد فيها أن التجربة الإسلامية نالت حظها من البروز، والتمثيل في البرلمان، بموجب الدستور، مع القدرة على (التأسيس من تحت) كما يقول شكيب أرسلان، من خلال إنشاء الشركات والمؤسسات والهيئات والمدارس والجمعيات، والتي كانت هي الأرض الممهدة لدخولهم في المجالس البلدية والبرلمانية. ورغم الاضطهاد والمضايقة التي نالت القيادات الإسلامية في تركيا إلا أنها لم تكن بحال من الأحوال تساوي عشر معشار ما جرى للتجربة الإسلامية في مصر!! فلإن وصل أردوغان للحكم وحزبه يملك في تركيا فقط (1100 شركة) و(51 محطة تلفزيونية) و(31 إذاعة) و(110 دورية ومجلة) و(800 مدرسة) و(5500 صندوق خيري)، فإن الإسلاميين في مصر، طوردوا في خارج بلادهم كما في سويسرا وهم ينشئون البنوك الرسمية، وطوردوا من عدد من الجامعات في الخليج، حتى صودرت كتبهم ومكتباتهم في بلدهم مصر!. فهل يا ترى كان حال السيد أردوغان وحزبه عند وصولهم للحكم، كحال الإسلاميين في مصر عند رغبتهم المشاركة في الحكم؟!! وهل تركيا العلمانية قروناً من الزمان، والتي لم يستطع السيد (أردوغان) إزالة صورة زعيمها العلماني (أتاتورك) مصلحة، وهو المحارب للدين، كمصر الأزهر، حاضنة العلماء والقراء والأدباء وأساطين العروبة والدعوة والفكر؟! إن المقارنات والوصايات كلما بعدت عن المنطق، ولم تلامس الواقع، لن تقترب من خط التماس الذي يطلق شرارة التفكير والتغيير. ومع ذلك فإن التجربة الإسلامية التركية لم تصل بضغطة زر، ولم تفتح لها كل الأبواب، فهي تحت نظر الغرب الذي يقرأ تحركها بريبة، وتحت تخوف جملة من الليبراليين الذين يرون في إقرارها منحاً للحرية تخفي صحوة مضمرة!! ونحن لا هؤلاء ولا هؤلاء.. نحن نأخذ الحكمة من أي وعاء كان.. وفي التجربة التركية الإسلامية لا بد أن نشرب من الوعاء إلى حد ما يروينا، لا إلى حد ما يبللنا!! فعقلية الحراك الأردوغاني، والمسايسة الحزبية من ورائه، في الالتفات إلى الداخل، والدعم المعنوي واللوجستي للخارج، وقوة الاقتصاد، وتحريك النظم والقوانين لتلائم تغيرات العصر، وتفعيل الطاقات الشابة، ومشاهدة الإنجاز المتقن، والتغيير الإيجابي المحلي، والإصلاح -الممكن- العربي، سياسات تتطلب مدارستها والوقوف عند عظمتها، واستلهام إيجابياتها. وثمة ما يجب دراسته عند قراءة السطور الماضية تكمن في أن (الحكم الأردوغاني) حكم تركي محلي ابتداءً، بفكر إسلامي عالمي انتهاءً. ومشكلات الكثير في التيارات الإسلامية ضعف الإنتاج في الداخل لأنهم يعيشون بعقلية هموم الخارج، وهذا عكس العقلية الأردوغانية، وعند هذه النقطة الأخيرة سيكون الحديث بعد ذلك نظرياً، ما لم تستنفر التيارات الإسلامية طاقاتها وتستغل ما تبقى من وقتها قبل أن يزيد التصدع، لتقرأ التجربة التركية ميدانياً بعمق، وتقرر ما ينبغي إقراره، ولو تطلب ذلك تغييراً في المسميات، والسياسات، والهياكل، والاستراتيجيات، والمناهج!! وحينها فليدخلوا إلى صناديق الاقتراع تحت أي مسمى كان، شاءه أردوغان أو لم يشأه، طالما أقنع الشعوب، وأبناء التيار الإسلامي قبلهم!! [email protected]