كعنقاء ماتت احتراقًا وتحولت رمادًا ثم ولدت من جديد، ماتت سوق عكاظ قبل 12 قرنًا وانبعثت قبل خمس سنوات من تحت رماد النسيان سوقًا جديدة تستعيد أمجاد الماضي، وتواكب الحاضر، وتستشرف آفاق المستقبل، وتبني الإنسان وتعمر المكان، إنها عنقاء الجزيرة العربية. يقال عن طائر العنقاء إنه «يمتاز بالجمال والقوة»، وكذلك امتازت سوق عكاظ قديمًا بجمال الإبداع الشعري والخطابي، واستعراض قوى القبائل، وشهدت الحروب أيضًا، حيث وقعت على أرضها وقائع حرب الفجار، التي شهدها الرسول صلّى الله عليه وسلّم وكان في الخامسة عشر من عمره قبل البعثة النبوية. إيلاف قريش سوق عكاظ التي تشرع أبوابها يوم 22 شوال الجاري برعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز ويفتتحها صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكةالمكرمة، كانت فيها حرب الفجار دليلاً صريحًا على المكانة المهمة للسوق في ذلك الزمن، باعتبارها مركزًا تجاريًا يربط جنوب بلاد العرب بشمالها. وسعت مملكة الحيرة، عبر هذه الحرب معتمدة على قبيلة هوازن الساعية لانتزاع صدارة قريش الاقتصادية بين القبائل العربية، إلى الاستيلاء على طريق التجارة بين العراق واليمن، ومنع رحلة الشتاء والصيف القرشية «إيلاف قريش» من الاستمرار، وصولاً إلى تدمير قوة قريش التجارية. وكانت قريش تدافع في هذه الحرب على مكانتها التجارية التي بنتها منذ زمن منذ هاشم بن عبدمناف وإخوته (أوائل القرن السادس الميلادي)، بعد أن أخذوا عهود «الإيلاف» من ملوك الأطراف في الشام والعراق واليمن والحبشة، حتى يسيروا تجارتهم الدولية. وجاء انتصار قبيلة قريش في حرب الفجار التي امتدت بين العامين 585 و590م ليحفظ لقريش سيطرتها على خطوط التجارة، بل ومكنها هذا الانتصار التاريخي أيضًا من الاستيلاء على سوق عكاظ، وجعلها تحت نفوذ حلفائها، بعد أن كانت خاضعة لقبيلة هوازن قبل تلك الحرب. جدل حول تاريخ عكاظ لكن لتاريخ نشأة السوق جدلاً يستحق أن يشار إليه، حيث اختلف المؤرخون حول بداية عقد السوق، فمن قائل إنها بدأت في سنة 585م وآخر يرجع البداية إلى تاريخ أسبق، وتحديدًا إلى العام 500م حين بدأت قبيلة قريش في دعوة قبائل العرب -كلاً في ديارها- إلى مداورة أسواقهم على مدار السنة، إلى رأي ثالث يعيدها إلى القرن الأول الميلادي كسوق محلية (الدكتور جريدي المنصوري)، ويرى أن سقوط البتراء سنة 106 م بيد الرومان أدى إلى انتقال تجارة القوافل إلى الحجاز ونشاط التجارة في أسواقها. لعبت سوق عكاظ، إلى جانب أسواق العرب الأخرى، دورًا حيويًا مهمًا في التواصل بين القبائل العربية المنتشرة في صحاري الجزيرة العربية المترامية الأطراف، ومعها القبائل التي سكنت في ذلك الزمن أرض العراق والشام واليمن والخليج. قرب هذا التواصل اللهجات العربية المختلفة في ذلك الزمن، بل وساعدت في انتشار لهجة قريش التي نزل بها القرآن الكريم، كونها اللهجة التي يسهل على جميع العرب فهمها، وقربت أيضًا لهجة قريش هي الأخرى من بقية اللهجات، فلم تبق لهجة منغلقة وإنما تطورت باختلاط القرشيين بأبناء القبائل الأخرى. وكان يؤم سوق عكاظ الحكماء والقضاة والشعراء والخطباء يخاطبون القبائل بلغة عربية يفهمها الجميع، وكان على الشعراء تحديدًا أن يلتزموا لغة قريش في الفصاحة عبر قصائدهم التي يلقونها أمام الحكام، فما تقبله قريش يقبل، وما ترفضه يشاح عنه. ملتقى التعارف.. ومهرجان الشعر توصف سوق عكاظ القديمة بأنها «ملتقى للتعارف بين القبائل، وتبادل السلع والمنافع، واختبار الشعراء منهم، في أول مهرجان شعر في تاريخ البشر». ومن أشهر الأدلة على أن العرب كانوا يقصدون سوق عكاظ للتعريف بقومهم وآدابهم وشرفهم، أن أمية بن خلف الخزاعي حين هجا حسان بن ثابت في قصيدته أراد أن يفشيها بين الناس، فسعى في نشرها في عكاظ، وذلك بقوله: ألا من مبلغ حسان عني مغلغلة تدب إلى عكاظ فرد حسان بن ثابت بقصيدة زايد فيها على أمية بقوله: سأنشر إن بقيت لكم كلامًا ينشر في المجامع من عكاظ وحرص الشاعران على نشر قصائدهما في سوق عكاظ، يؤكد الحشد العظيم للقبائل العربية الذي كانت تعيشه السوق في كل موسم من مواسمها، ما حول عكاظ إلى منتدى جامع لشؤون السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة والأدب. وإذا كان الشاعر الفرنسي لوي أراغون قال: «لعل أعظم ما كتب البشر من شعر، الشعر العربي الجاهلي». فإن أرفع هذا الشعر ولد في سوق عكاظ، إذ برزت في هذه السوق المعلقات السبع التي علقت لاحقًا على أستار الكعبة. في هذا السوق ألقيت قصائد المعلقات على سمع الأذن العربية للمرة الأولى، ومنها أخذت مكانها المستحق في سماء الشعر والأدب أنجمًا مضيئة. صحيح أن الإخباريين لم يتفقوا على عدد المعلقات، فعدها ابن عبدربه في العقد الفريد، وابن خلدون في مقدمته الشهيرة، وابن الرشيق، والزوزني سبع معلقات، ورأى ابن النحاس أن عددها تسع، فيما ذكر التبريزي أنها عشر، إلا أنهم اتفقوا جميعًا على أنها عرضت على المحكمين في سوق عكاظ فأجيزت، وبعدها انطلقت شهرتها وذاعت. إذن، هنا في سوق عكاظ، استعاد امرؤ القيس بكاءه على أطلال عنيزة ومنزلها، واسترجع طرفة ابن العبد وقوفه على أطلال خولة، فيما توعدّ عمرو بن كلثوم التغلبي ملك الحيرة عمرو بن هند بأن يورد الرايات بيضًا ويصدرهن حمرًا، وشكا الحارث بن حلزة اليشكري رحيل أسماء وملل المكان بمن بقوا فيه بعد رحيلها. وهنا في سوق عكاظ أيضًا، أعلن زهير بن أبي سلمى سأمه من تكاليف الحياة بعد أن بلغ من العمر 80 حولاً، فيما اعتبر لبيد بن ربيعة أن الديار عفت محلها ومقامها، أما عنترة العبسي فتساءل عن الشعراء هل غادروا من متردم، أم عرفت الدار بعد وهم وشك؟. إذًا، كانت سوق عكاظ مركزًا لاختبار الشعراء وتطويبهم أعلامًا للشعر العربي القديم، ولذلك توافد إليها الشعراء من أرجاء الجزيرة العربية، وفيها تنافس المتنافسون على شرف الاعتراف بهم وإعلانهم شعراء في مجمع القبائل. ولذلك، سكن الشعر في سوق عكاظ، وسكن السوق في قصائد الشعر عبر التاريخ، ما يؤكد رمزيته ومكانته التاريخية التي استحقت الاحتفاء والتخليد شعرًا وأدبًا، ومن ذلك قول شاعر النيل حافظ إبراهيم: وخطبت أفكار المعاني منكمو وزففتها بنفائس الألفاظ فكأن نجدًا والحجاز عشيرتي وكأن هذي الدار سوق عكاظ كما قال الشاعر السعودي سعد البواردي: عكاظ فيك تناغى الجرس والنغم اليوم يومك جل أيها القلم عكاظ الضاد لم تعقم وما هرمت عكاظ الضاد خصب بل هي الهرم إطلالة الفكر في واديك خالدة لا الجهل يحجبها لا الذل لا الظلم الطائر عاد.. يزداد جمالاً وقوة غادرت «العنقاء» أرض العرب قرونًا طويلة، وتحديدًا منذ العام 129ه، لكنها عادت إليهم في العام 1428ه من تحت الرماد في ظهور جديد، تزدان جمالاً وقوة عامًا بعد آخر. ويقول صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز أمير منطقة مكةالمكرمة عن استعادة سوق عكاظ: «إننا نحتفل بسوق عكاظ العربي الإسلامي الذي ابتدأ في عصر الجاهلية، واستمر في العصر الإسلامي، وها هو اليوم يعود على أيدي العهد السعودي الزاهر برعاية خادم الحرمين الشريفين، بسواعد وبفكر وبإرادة هذا العهد المتنور، لإعادة الثقافة والفكر والإبداع إلى بلد الثقافة والفكر والإبداع، وإلى هذا المجتمع الذي أراد له الله سبحانه وتعالى أن ينهض في العهد السعودي المستنير. إن سوق عكاظ هو مشروع القرن». وبات المثقفون والأدباء العرب منذ خمسة أعوام على موعد «صيفي» جديد مع الشعر والندوات الأدبية والصالونات الثقافية، وتكريم المبدعين والمتميزين في مجالات الشعر والتصوير الفوتوغرافي والحرف اليدوية، على أرض السوق التي اختير له أن يعود إلى موقعه التاريخي نفسه (40 كيلو مترًا تقريبًا شمال شرق مدينة الطائف السعودية). وبعد أن كان سوق عكاظ في الماضي -كما يصفه الأمين العام لدارة الملك عبدالعزيز الدكتور فهد السماري-: «جامعة مفتوحة لتخريج شعراء جددًا مؤثرين في المقام الأول في اللغة العربية ومثرين لآلياتها وأدواتها، تفننوا في استنطاق مكامنها الأدبية، وميدان ضخم لمنافسات شعرية بين أسماء خلدت قصائدها حتى يومنا الحالي، بل أصبحت مرجعًا للغة العربية بعد أن باعد التطور المدني بين اللغة العربية وأهلها». عاد هذا السوق ليؤدي دورًا مشابهًا بنمط حضاري مغاير يواكب العصر، بعد أن توسع في تخريج المبدعين في مجالات أدبية وفنية وعلمية متنوعة، ومنح أربعة شعراء عرب بردة «شاعر عكاظ» بعد أن فازوا بجائزتها، وهم: السعودي محمد الثبيتي، والمصري محمد التهامي، والسوري عبدالله عيسى سلامة، واللبناني شوقي بزيع. وفيما غاب عن انطلاقته الجديدة «جسدًا» كل عمالقة الشعر العربي القديم: النابغة الذبياني، والخنساء، وامرؤ القيس، حضرت خيامهم كمضافات لأسماء جديرة بالاحتفاء والتكريم لإبداعها شعريًا وفنيًا وثقافيًا وفكريًا. وكرّم سوق عكاظ في سنواته الأربع الماضية أيضًا عشرات المبدعين في مجالات الشعر، والخط العربي، والتصوير الضوئي، والرسم التشكيلي، والحرف اليدوية. وأضيفت في هذا العام جائزة جديدة هي جائزة «الإبداع والتميز العلمي»، وهي تهدف إلى تكريم المبدعين في مجال البحث العلمي ومبتكري الاختراعات التي تخدم البشرية. وقدم سوق عكاظ في نسخه الأربع السابقة للجمهور إبداعات كبار الشعراء والأدباء والمثقفين والمفكرين السعوديين والعرب، من خلال أنشطته وبرامجه التي شملت الندوات والمحاضرات الثقافية والفكرية والأمسيات الشعرية، وتميز في عامه الرابع بإضافة برنامج «تجارب الكتّاب». وسيستمر السوق في تنظيم البرنامج في هذا العام، بإتاحة الفرصة لمجموعة جديدة من المفكرين والكتّاب العرب لعرض تجاربهم في التأليف والكتابة، من خلال عقد ندوات ومحاضرات، وتخصيص جناح لكل منهم لعرض مؤلفاته واستقبال الزوار الراغبين في اقتنائها. واستعاد سوق عكاظ في انبعاثه الجديد تفاصيل كثيرة من سيرة السوق الأولى، من خلال عروض جادة عكاظ، والتي حظيت بإقبال كبير على متابعتها من الزوار من الأفراد والعائلات، ومن بينها حي عكاظ، حيث أقيمت بيوت الشَعَر المصنوعة من مواد خاصة وجهزت من الداخل على الطراز العربي، لتحاكي أحياء العرب التي كانت تقام في السوق قديمًا. واشتملت العروض أيضًا على أعمال مسرحية درامية تاريخية متنوعة «مسرح الشارع»، مثلت جوانب الحياة والأنشطة التي كان يشهدها سوق عكاظ قديمًا وقدمت باللغة العربية الفصحى، إضافة إلى عروض أخرى لإلقاء الشعر العربي الفصيح وخصوصًا «المعلقات» والخطب البلاغية التي بنيت عليها شهرة سوق عكاظ، ويؤدي تلك الأعمال ممثلون محترفون وهواة على طول الجادة. كما استعاد السوق جانبًا من تفاصيله القديمة برؤية عصرية حديثة عبر أعمال مسرحية متميزة جسدت في العامين الماضيين شخصيتا الشاعرين امرئ القيس وطرفة بن العبد، فيما تعرض في هذا العام مسرحية جديدة عن الشاعر زهير بن أبي سلمى، ويتوقع أن يشهد السوق في الأعوام السبعة المقبلة تجسيد بقية شخوص شعراء المعلقات العشر. ليس شعرا فقط.. بل تجارة يضم سوق عكاظ محالاً لتسويق أعمال الأسر المنتجة كالمأكولات الشعبية والحديثة والمقاهي، إلى جانب المنتجات الزراعية والفواكه المنتجة في محافظة الطائف والمدن القريبة منها، ومحالاً لعرض وبيع المقتنيات والقطع الأثرية، وأخرى لبيع الهدايا التذكارية التاريخية اليدوية، مثل المعلقات المكتوبة على رقاع من الجلد وغيرها والصخور المنحوت عليها أبيات شعر من قصائد المعلقات. وشهد السوق منذ انطلاقته أعمال تطورات عديدة، بدأت بتنفيذ أعمال البنية التحتية، كتوفير خدمات المياه والكهرباء والهاتف وأعمال السفلتة وغيرها وبناء الخيام بالفعاليات ومرافق الجادة، وتطورت إلى وضع حجر الأساس لتنفيذ مشروع خيمة سوق عكاظ، التي ستكون أكبر منشأة في السوق. وتقع الخيمة التي تعد أكبر خيمة خرسانية من نوعها في المنطقة على مساحة أربعة آلاف متر مربع، وتصل كلفة إنشائها الإجمالية 36 مليون ريال. ومن المقرر أن تنفذ خلال الفترة المقبلة مشاريع تطويرية أخرى لمصلحة سوق عكاظ، منها مشروع إنشاء طريق يربط بين مطار الطائف والسوق بتكلفة تصل إلى 60 مليون ريال. ويمكن القول بعد مرور السنوات الأربع الماضية إن مشروع تطوير سوق عكاظ الذي يحظى باهتمام خاص من أمير منطقة مكةالمكرمة، يعكس رؤية تطوير شاملة تهدف إلى جعله فعالية اقتصادية وثقافية حديثة، وموردًا اقتصاديًا واستثماريًا يحقق التنمية المستدامة لمحافظة الطائف على مدار العام. ويعد نجاح السوق في السنوات الماضية واستمراره للعام الخامس على التوالي ثمرة تكامل جهود جهات حكومية عدة، على رأسها إمارة منطقة مكةالمكرمة، والهيئة العامة للسياحة والآثار، ووزارة التربية والتعليم، ووزارة الثقافة والإعلام، ومحافظة الطائف، وجامعة الطائف، قبل أن تنظم إلى هذا الحشد في هذا العام وزارة التعليم العالي بإطلاقها برنامج «عكاظ المستقبل» وإشرافها على جائزة «الإبداع والتميز العلمي».