عندما تكون القيادة مُتجذرة في الإرث التأريخي فحتماً ستكون مؤشراتها واقعاً يبرز في أحلك الظروف ، وليس إدعاءً تفرضه ظروف ذات أبعاد سياسية أو اقتصادية تُخول لها ممارسة هذا الدور المحوري الذي لا تمتلك مقوماته ، ولا تعي تبعاته ؛ وبالتالي تفتقد لآليِّات التعامل معه ؛ الأمر الذي يجعلها مُثاراً للتندر والسخرية . قادني للإطلالة السابقة تجربة مصر في كيفية إدارة ثورة الشباب التي أطاحت بالنظام الحاكم ، وغيِّرت وجه البلد ، وبدأت في إعادة صياغة المستقبل وفقاً لمُتطلبات مرحلة تجاهلها النظام البائد ، مما أدى إلى تنامي الاحتقان في ذواتهم المتوثبة للمعالي ، ودفع ثمنها انهياره مُذعناً لصوت الشارع الذي أثبت أنه صوت الحق عندما تُمس كرامة الإنسان . فعلى مدى خمسة أيام قضيتها في القاهرة تنقلت بين أحيائها ، ووقفت على ضفاف نيلها ، وزرت ميدانها التأريخي الذي انبثقت منه الثورة الياسمينية ؛ لم ألاحظ أن ثمة تغييرا في ميكنة الحياة اليومية ؛ فالكل يُمارس حياته في اعتياديتها المعهودة ، فالجو الرمضاني مُخيِّم على الجميع متمثلاً في موائد الإفطار الجماعية ، وممارسة الشعائر الدينية في روحانية عالية ، والمقاهي والمطاعم على النيل مليئة بالمرتادين من هواة السهر واللمة الحلوة ، ومعرض الكتاب وفعالياته الثقافية شاهدٌ على التعاطي الإيجابي للواقع الهادئ ، حتى المظاهرات والاعتصامات تُنفذ بصورة تعكس ثقافة شعب يتوق للتغيير ولكن بأسلوب حضاري ، وهذا يعني أننا أمام تجربة لا تتوقف على وجود شخص واحد على رأس الدولة ، بقدر ما يقودها مؤسسات تُشكِل في مُجملها مُجتمعاً مدنياً يأبى أن يكون ضحية لنزوات نظام قدَّم مصالحه الذاتية على مصالح وطنه . إن المتأمل في الثورات العربية الأخرى ومقارنتها بثورة مصر يجد فوارق جوهرية في كيفية التعامل الإيجابي في مصر ، والسلبي في بقية الدول باستثناء تونس إلى حدٍ ما ، ولا تقتصر هذه الإيجابية على طرف دون آخر ، بل يشترك الطرفان المُشكلان للثورة والمتمثلان في السلطة والشعب في إدارة شئون البلاد وكأنهما وجهان لعملة واحدة ، وهما كذلك . هذا التعاطي الإيجابي يُثبت بما لايدع مجالاً للشك قيادية مصر في محيطها الإقليمي ، وتأثيرها الذي لا يُنكره إلا جاهل ، مُستمدة هذا الدور من حضارة قوامها سبعة ألاف سنة أمدتها أي السلطة والثورة بقوة دافعة للمحافظة على مصر كمُنجز تواتر إليها عبر هذه الحقب الزمنية المتتالية ، فكانا نعم الصائن لأغلى مصون . لقد أثبتت مصر أن الوطن فوق الجميع، ومصالحه العليا هي المُحرك الأساسي لكل نشاط ، نعم سعى شبابها للتغيير وكان لهم ما أرادوا ، ولكن دون المساس بمقدرات ومكتسبات بلدهم ، وهذا يعكس علو كعب الحس الوطني لشباب الثورة الذين استلهموا حضارتهم العريقة وعمقهم التاريخي ووعوا أن هذه المكانة لن ترحم مستقبلهم إذا لم يحترموها ويضيفوا إليها دون الانتقاص منها ، وهذا درس عملي للشعوب الطامحة للتغيير تتمثل ملامحه في أن يكون التأريخ خارطة طريق توجهها نحو بناء مستقبلهم على أسس تُمكِّنها من الاستمرار في تواجدها الفاعل لا الحضور الباهت . . للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (33) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain