عندما توفي عام 1978 الرئيس الكيني جوموكينياتا، قائد تحرير البلاد من الاستعمار البريطاني، تولى رئاسة الجمهورية الرئيس أراب موي، الذي واجه خلال الفترة الأولى من حكمه معارضة شعبية وضغوطًا دولية تستهدف نشر الديمقراطية في البلاد، واضطر إلى الرضوخ لذلك وأعيدت صياغة الدستور، بحيث تتمكن الجمهورية الكينية من العيش في ظل نظام ديمقراطي لا يبقى بموجبه رئيس الجمهورية في منصبه أكثر من فترتين متتاليتين، مدة كل منهما خمس سنوات.. وحكم أراب موي البلاد في ظل الدستور القديم لمدة أربعة عشر عامًا، ثم دخل الانتخابات حسب نظام الدستور الجديد ليفوز بفترتين رئاسيتين متتاليتين مدتهما عشر سنوات.. وهو الآن يعيش في أمان كرئيس سابق بعد أن انتهت ولايته عام 2002م، أي منذ حوالي تسع سنوات. هل يمكن للرؤساء العرب أن يقبلوا بتحديد فترة حكمهم، أم سيواصلون الدفاع عن ما يعتقدون أنه حقهم في الحكم حتى آخر رمق..؟! سوار الذهب في السودان تخلَّى عن السلطة باختياره وعن حكمة منه، ولذا فهو رئيس عربي سابق، وكان الرئيس العربي السابق الثاني الذي يبقى على قيد الحياة، ولم يُقتل هو عبدالرحمن عارف الذي أسقط في انقلاب عسكري وطرد إلى خارج البلاد وعاش في تركيا قبل أن يعيده صدام حسين إلى بغداد، حيث عاش تحت رقابة أجهزة الأمن العراقية، ولم يكن له أي نشاط أو طموح سياسي حتى مات بعد احتلال الأمريكيين للبلاد.. فهل يوجد بين الرؤساء العرب من سيقبل بالعيش في ظل دستور يفرض الرقابة على أفعاله وتصرفات معاونيه ويحدد فترة زمنية لحكمه؟!. ثورات الشباب الحالية تستهدف إعادة بناء النظام العربي بحيث يتم تداول السلطة، ويكون رئيس الجمهورية مُراقَبًا من الشعب وممثليه، لا رقيبًا عليهم، ونجحت هذه الثورات في إخافة بن علي ودفعه للفرار من البلاد، وأدخلت حسني مبارك إلى قفص الاتهام في محاكمة علنية متلفزة وهو على فراش المرض.. وجعلت كل من القذافي وعلى عبدالله صالح والأسد يعيشون في ذهول وعدم وعي، وتركوا أجهزتهم القمعية الأمنية تعيث في بلدانهم فسادًا وقتلًا وتخريبًا، وكأن السوريين واليمنيين والليبيين أعداء وليسوا مواطنين.. وهذه الثورات لم تكتمل بعد، ولم تحقق الهدف الرئيسي لها، وهو إعادة كتابة دستور البلاد، وتحقيق حكم الحرية والعدالة والتعددية والكرامة.. لذا تكثر التكهنات، وتواصل الفوضى لعب دور في كل ما يجري في بلاد الثورات، ومنها الانقسام الواضح والخطير بين ثوار ليبيا. ما سيحدث في مصر سيكون له التأثير الأكبر على باقي البلاد الثائرة، أو التي يتوقع أن تتعرض لعدوى الثورة.. وأمريكا وأوروبا تراقب بعناية ما يحدث في مصر، وتشير دراسة أمريكية إلى أن بين كل سبعة أشخاص يسكنون على سطح المعمورة فإن أحدهم شاب مسلم تحت الثلاثين سنة، وبالتالي فالمطلوب أن ينشغل الشباب ببناء بلدانهم عبر المشاركة في إدارتها، من أن يتفرغوا لصب نقمتهم على العالم الآخر، والوقوع تحت تأثير المتطرفين.. وتدور الآن المعركة السياسية داخل الثورات العربية الشابة بين الجماعات الليبرالية من جهة والمجموعات الدينية من جهة أخرى، وخاصة حركة الإخوان المسلمين.. وهذا الأمر شديد الوضوح في مصر. ويسعى المجلس الأعلى للقوات المسلحة بمصر إلى ضمان دور له في مستقبل الأيام، ويحاول في نفس الوقت الابتعاد عما يمكن أن يُعرّضه للانتقاد من أي طرف من الأطراف السياسية الثورية التقليدية.. لذا نسمع عن احتمال أن يتضمن الدستور المصري المقترح ضمانات لمصالح القوات المسلحة التجارية، والحفاظ على سرية الميزانيات الخاصة بها، وعدم تعرضها للتحقيقات البرلمانية.. وكذلك أن يحتوي الدستور بنودًا مشابهة لتلك التي حواها الدستور التركي، بحيث يتمكن من أن يكون الجيش ضامنًا لمسيرة الديمقراطية وتطبيق الدستور لدولة مدنية، وعدم الانحراف بها.. والحركات الليبرالية تؤيد قيام دولة ديمقراطية مدنية، وهم يواصلون القيام بمظاهرات واعتصامات ولكنهم عجزوا حتى الآن عن تنظيم صفوفهم في تكتل واحد، ولا زالوا منقسمين ضمن عدد كبير من التجمعات.. ويسعى الإخوان المسلمين، الذين أنشأوا لأنفسهم حزبًا سياسيًا تحت مسمى "حزب الحرية والعدالة" إلى أن تتم الانتخابات البرلمانية في أسرع وقت، قبل أن تتمكن الأحزاب الليبرالية من تنظيم نفسها بشكل يجعلها تنافس قوتهم في الشارع المصري.. ومن هنا نشأ الخلاف حول الانتخابات أم الدستور أولًا..؟! الإخوان والجماعات الإسلامية المتحالفة معهم تطمح في أن تؤدي الانتخابات السريعة إلى تمكينهم من لعب الدور الأكبر في صياغة الدستور الجديد عبر هيئة يكونونها، عندما يسيطرون على البرلمان بعد الانتخابات القادمة.. وفي المقابل أخذ الحديث عن وضع مبادئ فوق دستورية يتم الاتفاق عليها قبل الانتخابات يصبح أكثر جدية في الشارع السياسي المصري، الذي يشعر بالقلق، خاصة بعد الشعارات التي رفعت في ميدان التحرير من قبل السلفيين وغيرهم، ودعت إلى إقامة دولة دينية خلال التظاهرات الأخيرة.. وبموجب المبادئ المقترحة يتم وضع معايير ملزمة لما يمكن أن يكون عليه توجه البنود الرئيسية لمسودة الدستور الجديد المتوقع أن توضع لاستفتاء شعبي يصبغ عليها الشرعية النهائية. التجربة الثورية الديمقراطية العربية لازالت وليدة، وقدرات من يدير مرحلتها الانتقالية الحالية يشوبها الكثير من التردد وعدم الحسم، لأن من يدير هذه المرحلة يتعلم عبر تجربة الصح والخطأ، ولم يكن له دور سابق في المشاركة السياسية وفهم ألاعيبها.. والذين يكابرون في تقبل المطالب الشعبية، وخاصة في سوريا وليبيا واليمن، يدفعون هذه الثورات إلى مزيد من التطرف، ويُكلّفون أوطانهم العديد من الضحايا.. وعسى أن تكون مرحلة المعاناة هذه خاصة في هذه الدول الثلاث، محدودة وقصيرة. [email protected] للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (5) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain