«كنا معا.. بيني وبينك خطوتان / كنت صراخ اللحم تحت السوط حينما / يقطع ما توصله الأرحام / وشهقة الرفض إذا انقطعت مسافة الكلام / بالسيف أو شعائر الإعدام / كنت أحتاج الضوء والظلام / وثغرة تنفذ منها الريح / لليائسين من أرغفة الولاة والقضاة / والخائفين من ملاحقات العسس الليلي / أو وشاية الآذان في الجدران». عفيفي مطر كان من الممكن أن ألتقيه خميسًا عابرًا مرّ قبل عام. لولا أنّهم «أعلنوا» وفاته هذه المرّة. بين غبار التراث، وضباب الحديث، خطّ «عفيفي مطر» قصيدته. محمّلة بصرير دواة «الحلاج»، وتكتكة آلة «إليوت». لا يشبه «مهيار» كثيرًا. وبالصورة المقابلة، يشبه «بورخيس» قليلًا. مضى بعيدًا عن المزادات. غير آبه للمعان «درع» التكريم. ما حمّل سوق البورصة أسهمه الشعرية. من بين فئة صحّ ألا تخجل ان تقول عن أحدها: «كبيرًا كان». خصوصًا أنّ عالمه كان مفتوحًا لتطاول أقزام حلبات السباق الرسميّة. ترك «عفيفي» مهنة الهجاء فوق المنابر، ونيل تذاكر المؤتمرات بمدائح البلاط، ودفء غرف الفنادق المرصعّة بالنجوم لفصيلة المثقفين السمان. ظلّ بردان وحيدًا مشعثًا، آن ما كان أولئك المتبادلو جوائزهم، يبدّلون مواقفهم خلف ستار المسرح. أثراهم البترول. لكن أفقرتهم الكرامة. «السودانيّ» الفلسطينيّ مراد. مرّة قال محتفيًا بالرجل الذي غاب عنه الاحتفاء كثيرًا: «عفيفي، ليس غريبا أن يهدي ديوانه «أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت» إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، سيد الأوجه الطالعة. فعفيفي لا يخجل من هذا النسق العربي الإسلامي، جذرنا المشعّ وعنصرنا الأنقى. فالشاعر ليس بمستلب ووفيٌ لهذا التراث وما فيه من إشعاعات» أ. ه. وقبل عامٍ في عكاظ، كتب عنه الجميل عبدالرحمن الجوهري: «رحل الشاعر الذي اعتزل »الضجيج»، ليتقن همس الجودة. مبرهنًا على نموذجية الشاعر الفلاح. المنقب في البيادر والمعاجم، سواء بسواء. الناسج أبياتًا وزهورًا. قصائد وحصائد. عناوينَ رائعة، وسنابل يانعة. الأشعث: «محمد عفيفي مطر». مخلفا الليالي الموحشة، والقمر الحزين، وخماسية الحزن»-أسماء دواوينه الثلاثة محرّفة-. لم يكن «مطر» من فصيلة الشعراء عابري الوقت والشوارع والمنصّات. كان بتعبير «سعدي يوسف»: «عابرًا للأجيال». قلقا يسكن قلقا. كان همّه هو الفقير المعدم في قريته، أكبر من واقع الخريطة والإذاعة ومنهج التاريخ الوطنيّ. كان يجيد معنى «الالتفات إلى ألم الآخرين» كما تعبّر «سوزان سونتاغ». الفلاح الملتفّ بجلبابه، مهمومٌ بالوضع القوقازيّ، في استعلاء وقور على شوفينية العرقية والمحلية والوطنية، وتوق كامل للإنسانية المثلى والرفيعة. «قرأت أغلب ما يمتّ لتاريخ القوقاز»، «أتابع أخبارهم الساعة تلوَ الأخرى». العجوز الذي لم يكفّ عن التحدّث عن مدن الفودكا والثلج. الأمطار الرماديّة والفحم. سياسيّا وسيولوجيًّا، يبدو «مطر» ولآخر قطرة متشرّبًا هذا الأقليم. يتحدّث بنفَس المطّلع الخبير، عن شعب لا يبالي به العالم، بينما حصائد مقاوماته تهزّ سنابلها من 300 عام. لهذا أسّس «عفيفي» لقصيدة حقيقية. غامضة بعض الشيء. متوارية ومواربة. أكبر من كونها وزنًا للزعزعة، ووصفًا للبهرجة، وغلافًا لمّاعًا، ودار نشرٍ بمكتب علاقات عامّة. جاءت قصيدته فضّة وجارحة. لا تنتمي لفصيلة القصيدة المزحة، ولا لوساطة النشرٍ ولا للصورة المفبركة في ملحق الجريدة، أو السفارة. مرّةً على ضفّة النيل، بوقار العجوز وشعوره بالضمأ، وقبل ما يسبق شهرًا من رحيله، كان «عفيفي» يثرثر، عن الرجل الذي خرج من أقصى الجنوب، إلى أقصى شرق العالم. إلى القوقاز تحديدًا. «خطّاب. نعم خطّاب». هكذا يقول. ثم يصمت متأمّلًا وجهه في صفحة الماء ربما. يخرج سجائره الأنيقة. يلتفت لوهلة قائلًا: «لن أعطيكَ واحدة منها». ويبتسم. يضحك بهدوء وهو يدخّن. يسأل عن جريدة الوطن. عن محرّرها السياسي. بودّ يقول انه قريبه. يتحدث عن مدينة الطائف. «لقد ذهبت إلى مهرجان عكاظ. وأخذت عمرة يومَ ذاك. وأودّ أن لو عدت من جديد». هكذا يقول. يتحدث مطر عن جدة «لقد تمشيت فيها وحيدًا». ان تطلب رقمه. فيجيبك صوته الشاحب. ويلبّي نداءكَ إلى القاهرة. ثمّ يلتقيكَ. وحين تزعم أنّك لياقة سابقه إلى المقهى. فتجيء مبكّرًا بربع ساعة تتحضّر للقائه، وتستغرب أن يحين موعدكما ولا يجيء. لتفجأ به قابعًا في الجهة الثانية من المقهى. مبتسمًا، يعرف الغريبَ من سيميائه. ويقيم ألفته على عجلٍ، ويمضي إلى الحديث كذلك. تخرج ورقة، ويعطيكَ القلم. سجّل لديكَ، هذا أدهشني وهذا فاتن وهذا جدّ رائع. ولا بدّ أن تقرأ سولجنستين. هل تعرف: «إني الآن أقرؤه. أعيده بالأصحّ». يقول. تشعر بالرهبة وهذا العجوز يقول لك: إنّ أقلّ ما يقرأه من معدّل اليوميّ العاديّ، ثماني ساعات. وإن تحمّس وكانت النفس طيّبة، والكتاب داعٍ لذلك، «فإنني اقرأ ثنتي عشرة ساعة». وتتوالى اندهاشاتك وأنت تسمع أنّ أقلّ ما يقرأ «الشاعر» الشعر. وأكثر ما يفعل الفكر. لهذا كان «مطر» مطرًا لوحده. أن تفعل كلّ هذا، مع رجل تفصلك عنه التجربة والعمر وبدعة الروعةِ التي يصنع، ثمّ تجده «أحدًا» يمنحكَ شرف الصداقة برغم كلّ ما سبق، يجعلكَ هذا تخاف، تضحك، تبصق، تجوس جريدة محليّة، أخريات. يجعلك تؤكّد على أنّ الثقافة ليست صورة شخصية بشعر منفوش وسيجار كوبيّ في مجلة خليجية، قد يعلو ثمن «العدد» الزهيد، على ثمن الكلمات التي اندرجت تحته. على مدى يزيد على خمسين عام، أمطر «مطر»: «مجمرة البدايات» -سيرة ذاتية-، «الجوع والقمر»، «يتحدث الطمي»، «دفتر الصمت»، «رسوم على قشرة الليل»، «كتاب الأرض والدم»، «شهادة البكاء في زمن الضحك»، «ملامح من الوجه الأنباد قليسي»، «النهر يلبس الأقنعة»، «رباعية الفرح»، «أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت»، «فاصلة إيقاعات النمل»، «احتفاليات المومياء المتوحشة»، و«رعويات عبدالله». كنت سألتقي «عفيفي» الخميس الموافق لأيام كهذه من عام مضى. لقد كان الأمر كذلك، لولا أنّه رحلَ، متعبًا بداء الكبدِ والجسد. وحده قلبه حتى فارق الحياة، ظلّ غير مصاب بداء سوى الشعر. ولأنّه لم يمت منذ عامٍ حاولت استذكاره. وآهٍ من زمنٍ يتذكّر فيه الموتى الأحياء. * كاتب سعودي.