“آثار مصر تُسرق والمتحف المصري ينهب..”، هكذا كان يصرخ المخرج المصري خالد يوسف حين لجأ إلى إحدى الفضائيات العربية في أسوأ ليالي ميدان التحرير بالقاهرة التي انسحبت فيها الشرطة المصرية من الشارع. لم يأبه ليلتها خالد يوسف بالقنابل المسيلة للدموع، لكنه اضطر للانسحاب من ميدان التحرير، حيث كان يتنافس مع “شباب 25 يناير” على الصمود في وجه النظام السابق.. جاء إلى الاستوديو حاملًا صرخة الفنان الذي يعرف قيمة الآثار باعتبارها ذاكرة مصر. خالد يوسف ليس دخيلًا على السياسة.. بل هو فنان سياسي بامتياز.. ولذلك لم يكن غريبًا أن تتجاوز أفلامه الرقابة على المصنفات الفنية لتدخل كل مرة في نفق رقابة وزارة الداخلية والمخابرات العامة وحتى العسكرية، فهو لا يكل ولا يحل من توظيف الفن في مواجهة القبح السياسي. خالد يوسف تحول بعد الثورة إلى حالة صخب سياسي وإعلامي وفني.. سألناه عنها في بداية حوار “الأربعاء” معه، فقال: أنا فنان بالصدفة لا أعلم إن كانت حالة صخب بمعناها العلمي أم أنها حالة جدل غير صحيحة، وعمومًا أنا فنان كنت في بؤرة الحدث وهذا طبيعي لأنني ومنذ بداياتي قدمت للفن من الشارع السياسي ومنذ كنت في الجامعة أشارك في المظاهرات وأُعتقلت أكثر من مرة.. إذن الشارع السياسي هو الأصل، أما الشارع الفني فقد جئته بمحض الصدفة.. كما أن أي فنان أو أي مخرج يجب أن تكون له رؤية.. والرؤية تتكون من ركيزتين أساسيتين هما الخيال والانحياز لمنظومة ما، وأنا منحاز للشباب الذي عانى من مظالم كثيرة، وأطمح إلى العدالة الاجتماعية، وإلى أن كل فرد له حق في ثروات بلاده، وأؤمن بالحرية والديمقراطية. تشاؤم مبرر * لكن حديثك عن المظالم وحتى تجسيدك لها في فنك يعكس رؤية مفرطة في التشاؤم.. ومع التحفّظ على المبالغة هل تغيّرت هذه الرؤية بعد أحداث 25 يناير ونتائجها؟ - أعترف بأنني متشاؤم.. لكن هذا ما يقتضيه حال المجتمع المصري.. هذا أيضًا ما ينعكس بالضرورة على أعمالي الفنية.. لكن بداخلي أمل كبير وتفاؤل بالمستقبل البعيد وليس القريب.. ولن تصدقين حين أقول لكِ أن أحدث أفلامي “كف القمر” الذي كان يُفترض أن يُعرض في بداية يناير الماضي لولا أحداث كنيسة القديسين، يحمل في مضمونه تفاؤلًا كبيرًا ويتحدث عن بعث جديد للأمة يحمل في طياته أملًا عظيمًا. * المشكلة أنك تحولت إلى فنان سوداوي؟ - أعترف بذلك.. ربما أركز على الجوانب السوداء فقط، لكن هذا هو دافع المجتمع المصري، أما تزييف الحقائق فلن أقترف هذه الجريمة رغم أن كل من كان يريد التودد للنظام السابق لم يكن يحتاج إلا أن يهاجمني ليصبح في اليوم الثاني متقعدًا لمنصب كبير. مرحلة النقاهة * بغض النظر عن فنك.. هل تعتقد أننا سنشهد طفرة فنية في مرحلة ما بعد الثورة؟ - المجتمع المتخلّف لا يفرز فنًا ناهضًا.. إنها كانت منظومة فساد كاملة تلاحق شتى مناحي الحياة بما فيها الفن.. وبالطبع سوف ينهض الفن لكن ليس الآن، فالمجتمع حاليًا في مرحلة النقاهة، وعندما تنتهي ستأتي المرحلة التي ينتظرها جميع المصريين من نهوض في شتى المجالات العلمية والسياسية والتعليمية والصحية ومعها سينهض الفن بالطبع. * لكن السينما المصرية تعيش أزمة.. إلى متى تستمر ومتى تنتهي؟ - ستستمر الأزمة لفترة لأن منظومة التفكير ومعها آليات العمل لم تتغيّر.. الأزمة ستنتهي حين تنتهي أزمة المجتمع. * دعنا نعود ثانية لأحداث 25 يناير.. ما الذي دفعك للتظاهر؟ - طول عمري أشارك في المظاهرات، سواء كانت لأسباب وطنية أو مساندة لقضية قومية.. وبما أنني مناهض للنظام السابق كان طبيعيًا أن أتظاهر في 25 يناير. بوتقة ميدان التحرير * ما أجمل ما وجدته في ميدان التحرير؟ - وجدت الشعب يطحن النظام السابق.. وميدان التحرير كان يضم كل الأطياف.. ويستوعب الجميع.. ويعهد الكل.. المسلم والمسيحي والشيوعي والليبرالي واليساري والسلفي.. الرجل والمرأة.. كلهم لا تشغلهم سوى المصلحة الكبرى للوطن. * هل كنت تتوقع ما حدث؟ - لا.. كنت أظنها مظاهرة مثل كل المظاهرات تقمعها الشرطة وينتهي الأمر عند هذا الحد.. لكن الاحتقان الشعبي كان أقوى من أي حسابات أخرى. * متى أدركت أنها ثورة؟ - مساء 28 يناير.. حين وقف الشباب في مواجهة هجوم أمني سافر جعل منها ليلة دامية.. أدركت أنها ثورة وهتفت الله أكبر. * هل نستطيع القول أن أفلام العشوائيات التي قدمتها كانت قنبلة موقوتة انفجرت في وجه النظام؟ - لا أستطيع أن أدّعي هذا الشرف أو أنسبه لنفسي.. لكن إذا قال شخص واحد أنه تأثر ولو بمشهد واحد في فيلم من أفلامي فهذا سوف يسعدني. * من خلال معايشتك عبر أفلامك لواقع المجتمع المصري، خصوصًا العشوائيات، ما أسباب كل هذا الفساد الذي ظهر في مصر؟ - الكواكبي قال “السلطة المطلقة مفسدة مطلقة”.. هذا ما حدث وأسهم في صناعة الفرعون الذي تصور أنه إله.. فالسلطة المطلقة تخلق ديكتاتورًا ولو كان شريفًا فإن بطانة السوء والمنافقين والمنقصين لن يرضوا إلا عندما يتحول إلى طاغية. * هل ثمة أعداء للثورة وهل يستطيعون وقف زحفها من وجهة نظرك؟ - بالطبع هناك الثورة المضادة.. وهناك من يحاول إحباط الشعب والتقليل مما حدث على عظمته. * وكيف يمكن للثورة أن تتحصّن؟ - نحن الآن في سنة أولى ثورة وسوف تنجح حين تتمكن من تغيير الهيكل الداخلي للمجتمع.. حين نصنع طبقة وسطى وتسود العدالة الاجتماعية ويحصل الجميع على حقه في التعليم والعلاج.. ويحيا الفقير حياة كريمة.. حين تصبح مصر دولة مدنية يتحقق فيها العدل لأبنائها من الرئيس إلى أفقر فقير. * ومم تخاف؟ - إرادة المصريين أقوى من أي مخاوف وممن يحاولون تثبيط عزائمهم. * وهل تعتقد أن من عاشوا الفترة السابقة بكل اختلافاتها قادرون على صنع التغيير أم أنهم بحاجة إلى أن يتغيّروا؟ - يجب أن نفرّق بين من أصيبوا بالتشوّش الفكري القابلين للتغيير وبين من يتلوّنون من أجل ركوب الموجة ومن لديهم قناعات معادية للتغيير. * نُسب إليك أنك قلت إن رجال الشرطة بحاجة إلى تأهيل نفسي.. فهل هذا صحيح؟ - ليسوا الشرفاء وهم كثير.. لكنني أتحدث عن غير الشرفاء الذين لم يكونوا يتوقعون ما حدث وصُدموا به، وبخاصة أنهم يحملون في داخلهم إرث سلطة صنعته حالة طوارئ امتدت لأكثر من ثلاثين عامًا.. كل ذلك أدى إلى اصابتهم باهتزاز نفسي، لذلك يحتاجون إلى تأهيل قبل عودتهم لمباشرة أعمالهم في ظل معطيات جديدة وواقع آخر. * بالمناسبة ماذا عن فيلمك “الرئيس والمشير” وهل سيرى النور؟ - الفيلم مُنع من قبل المخابرات العامة والمخابرات العسكرية ووزارة الثقافة وقد تقدمت برفع دعوى قضائية وحصلت على حكم نهائي لصالحي وسوف أبدأ في تصوير الفيلم وهذا هو مشروعي المقبل. * سؤال أخير.. كيف يسهم الفن في بناء مصر الجديدة؟ - الفن يتأثر بالنظام السياسي والمناخ المحيط به.. وبالتبعية يؤثر هو الآخر في المجتمع.. فإذا كان النظام السياسي والمناخ العام جيدًا فسيصبح الفن جيدًا.. وعلينا الآن أن نقدم فنًا راقيًا يوفر قدوة محترمة للمجتمع، ولكن يبقى أن الفن مرآة لواقعه الذي يحاكيه.