ومن قصته «مواسم المطر» اخترنا هذا المقطع، كما اخترنا له أيضًا عددًا من قصصه القصيرة جدًّا: اندلق نحو الغرفة في حاشية من توابع الطبيب.. تصفعني رائحة الخوف والبنج وسوداوية المعاطف البيضاء، فأتبعثر على كل الوجوه، وفي كل العيون للحظة، بدأت بعدها في لملمة ذاتي وقد انصرف الجميع إلا اثنين.. ها نحن ثلاثة هنا فقط.. الممرضة ترتدي الأبيض.. عامل النظافة يرتدي الأصفر.. أما أنا فلا أزال مرتديًا سوادي. يقهقه المجنون في داخلي، يحمل مصانع النسيج وحدهم مسؤولية مواقعنا هنا.. انشغل عنه بتأمل الوجهين المحيطين بي في الغرفة.. يبدوان لي كتوأمين مغوليين متماثلين.. الثقوب في أسفل الجبهتين تتشابه إلى حد التطابق، استغرب أن تكفي أحدهما ثقبان فقط لرؤية كل هذا العالم.. تهتز فتحة في وجه الممرضة فتحدث أصواتًا كأصوات الرسوم المتحرك: Do you Speak English? تداهمني ثلاث نوبات دفعة واحدة: ضحك، وسعال، وقد حاولت جهدي أن أقاوم النوبة الثالثة. يحشر الطبيب جسده المترهل في باب الغرفة.. ما زال كما رأيته قبل سنوات مرتديًا نفس الشارب وإن كان قد خلع قليلًا من الشعر في مقدمة الرأس.. لا تزال عيناه تحملان بقايا احمرار سهر جميل لمحته فيهما من قبل.. يرمقني فأخشاه.. يغسل وجهي برذاذ لعابه وهو يضغط بيده على مفتاح الكلام فأبدأ البث: يا سيدي الطبيب.. إن أمي تقول إنني اكبر من بنت الجيران بعام.. أصغر من ولد الجيران بعام، لكن لا ولد الجيران يعرف تاريخ مولده ولا بنت الجيران.. وقد حدثني والدي كشاهد عيان، بأن التاريخ في ذلك الزمان لم يكن يتجول في الأزقة والحواري ولا يهتم بغير مواليد الأعيان، وأبي لم يكن من هؤلاء، كان جوابًا للبحار، شراعه غيمة بيضاء يسكنها الريح والشوق والموال.. كان الربيع ينبت خصبًا تحت قدمي أبي، لكن أبي لم يمارس الانحناء.. كان لرأسه شموخ الصواري، ولقلبه أجنحة العصافير.. تسألني عن قبر أبي.. ليس لأبي قبر يا سيدي الطبيب.. إنه يمتطي صهوة موجة ذاهبة آيبة.. يأتي إلى الشواطئ حينًا يبحث عنا، وعندما لا يجدنا يصعد إلى السماء، ليعود يبحث عنا من جديد كقطرة ندى أو غشقة مطر.. أنا يا سيدي من مواليد برج الجدب، ومواليد هذا البرج يموتون في موسم المطر.. وما زلت أتذكر أن بنت جيراننا قد جرفها السيل في موسم المطر.. أن راوي الحكاية في حينا قد أدركه الصمت في موسم المطر، وأن دار عمتي مسعودة قد سقطت على رأسها في موسم المطر!!