لم يكن تراجع ريتشارد جولدستون القاضي اليهودي الجنوب إفريقي في مقاله بالواشنطن بوست عن تقريره الذي حمل اسمه، واتّهم فيه إسرائيل بارتكاب جرائم حرب، وتعريض حياة المدنيين للخطر خلال حرب غزة في ديسمبر 2008 نتيجة ضغوط إسرائيلية وصلت إلى حد منع الكنس اليهودية من تعميد ابنه، فحسب، وإنما ثمة سبب آخر لا يقل أهمية، ساعد على تراجع جولدستون عن تقريره. فالتقاعس العربي، وبصفة خاصة تقاعس كافة القوى والفصائل الفلسطينية، عن استثمار ما حمله التقرير -آنذاك- من إدانة واضحة لإسرائيل كان ينبغي البناء عليها، والانشغال بدلاً من ذلك بالصراعات والمنافسات البينية، فيما كانت إسرائيل تستخدم كافة أدواتها الاستخباراتية والسياسية والإعلامية لمحو أية نتائج للتقرير، أو حتى لقلبها ضد مَن صدرت لصالحهم، كل ذلك ساهم في حمل جولدستون على التراجع عن تقريره، موقنًا بالنجاة من الحساب. حكاية جولدستون مع تقريره تكشف عجز النظام الإقليمي عن استثمار ما يتهيأ له من فرص، لأسباب قد يكون بعضها هيكليًّا يتعلق بقصور آليات العمل العربي، وقد يكون بعضها ثقافيًّا، يتعلق بمدى استيعاب النظام الإقليمي العربي لإمكانية استخدام عناصر الضغط المعنوي لتحقيق مكاسب سياسية على الأرض، وقد يكون مرد بعضها صراع الشرعيات الفلسطينية بين فتح وحماس، أو بين غزة والضفة. والأرجح أن هذا الصراع الأخير ربما كان هو بيت الداء، حيث يظل الانقسام الفلسطيني هو الأب الشرعي لكل خيبات الأمل في الملف الفلسطيني في الوقت الراهن. تراجع جولدستون يعيد إلى الأذهان إلغاء الأممالمتحدة في عهد الرئيس بوش الأب لقرار أممي صدر عام 1975 في عهد كورت فالدهايم سكرتير عام الأممالمتحدة، اعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية، فقد تمكنت إسرائيل بدأب تُحسد عليه، من إلغاء هذا القرار، الذي كان ينبغي استثماره فلسطينيًّا وعربيًّا لبناء موقف دولي ضاغط من أجل تخليص الفلسطينيين من أسر العنصرية الصهيونية، لكن دعونا نعترف أن شطب القرار الأممي، ثم تراجع جولدستون عن تقريره إنما يكشفان عن وضع استثنائي غير عادي لإسرائيل في الأممالمتحدة، وعن تقاعس فلسطيني وعربي واضح في التشبث بالمكتسبات السياسية التي حققوها عبر النضال السياسي في أروقة الأممالمتحدة نتيجة عدم المتابعة.