إن الاختلاف راجع إلى اختلاف في قدر العلم وسعته، أو اختلاف في تكوين العقل ومدركه وحدته، أو اختلاف في الطبع وما يغلب على المرء من الحال والمزاج، أو اختلاف في الموقف والظرف المحيط بالمجتهد.. كما أن الله تعالى جعل شريعته وكتابه على مقتضى قواعد اللغة التي يكون فيها ما هو قطعي الدلالة وما ليس كذلك، وما هو مفسر وما هو مجمل، وما هو محكم وما هو متشابه، وما هو ناسخ وما هو منسوخ، ولو شاء لجعلها حرفًا واحدًا لا يختلف عليه الناس، غير أنه سبحانه أنزلها لناس خلقهم وهو أعلم بهم “ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير”. ولهذا جمع تعالى بين هذين المعنيين في قوله تعالى: “ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين”. فهو الخالق المالك المتصرف، وهذا من معنى الربوبية. وهو الإله المعبود الآمر الناهي، وهذا من معنى الألوهية. وبهذا يتبين أنه يستحيل قدرًا وشرعًا أن يتفق أهل الإسلام في جميع ما يعرض لهم من المسائل، حتى المسائل التعبدية العملية الخالية من التعقيد والتداخل، وحتى المسائل التي هي من موارد النصوص، فقد يقع للناظر في النص اعتقاد أنه ليس على ظاهره، أو أنه منسوخ، أو أنه ضعيف ولو كان الأمر بخلاف ذلك. فلم يبق إلا أن يعتصم أهل الإسلام بالمنهج الشرعي في فقه الخلاف السائغ، وأن يسعهم ما وسع الموفقين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وسلف هذه الأمة من التوسعة في العذر، وحفظ مقام الأخوة الدينية، وإحسان الظن، وترك البغي والتسلط، وأن يعتصموا بعصم الإسلام الجامعة ولا يتفرقوا بموجب الاجتهادات الخاصة، والآراء المتنازعة، ولهذا قال سبحانه: “يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون”. فالأخوة الدينية لفظ جامع ينتظم كل من صح له عقد الإسلام كائنًا ما كان خطؤه، فمن كمل له الإسلام والإيمان كملت له حقوق الأخوة. وهي لا ترتبط بالموافقة أو المخالفة في رأي أو مذهب أو اجتهاد إذا كان من المسائل التي يسوغ فيها الخلاف. ولهذا جاء في الآية بعدها قوله تعالى: “ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعدما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم”. وها هنا تجد النهي عن التفرق مطلقًا، فالتفرق مذموم بإطلاق، حتى جاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن أبي ثعلبة الخشني ما يدل على النهي عن التفرق الحسي فضلًا عن المعنوي، حيث قال رضي الله عنه: كان الناس إذا نزلوا منزلًا تفرقوا في الشعاب والأودية فقال صلى الله عليه وسلم: (إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان) فلم ينزل بعد ذلك منزلًا إلا انضم بعضهم إلى بعض حتى يقال: لو بسط عليهم ثوب لعمهم. وهذا المعنى كثير التردد في الكتاب العزيز، خصوصًا حين الحديث عن الأمم الكتابية وما عرض لها في دينها. أما عن الاختلاف فلم يرد النهي مطلقًا، بل مقيدًا يتبين به أن ثمة خلافًا مذمومًا، وخلافًا محمودًا. ولهذا قال ها هنا: “واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات” فهذا الاختلاف في موضع الذم؛ لأنه إعراض عن البينات والهدى، واتباع للهوى. وفي مواضع أخرى ربط الاختلاف بالبغي والعدوان. فمن كان يحسب أن اجتماع الأمة يكون باتفاقها العلمي الشرعي على مفردات المسائل وآحادها وتطابق النظر فيها فقد رام محالًا، وتمنى ما قضت الشريعة ومضى القدر النافذ بخلافه. لكن المطلوب أن يكون ثمة اتفاق على الأصول والمحكمات في الشرع الذي جاءت جمهرة نصوص الكتاب والسنة بتقريرها، وتوافر العلماء عليها خلفًا عن سلف وهو محل الإجماع الثابت المستقر. ثم يكون الاتفاق على طريقة التعامل مع الخلاف بحيث لا يخرج عن إطاره، ولا يؤثر في حقوق الإخاء الديني بين خاصة المسلمين وعامتهم، ولا ينتج تفرقًا مذمومًا وبغيًا بين المؤمنين، ولا يمنع من الرد والنصيحة والبيان وإظهار الحجة دون أن يكون ذلك ملزمًا، أو أن يظن به صاحبه أنه حسم لمادة الخلاف.