اشتهرت الثورة الفرنسية بمقولة ماريا أنتوني الشهيرة: «لماذا لا يأكلون بسكويت»؟ أو كما قيل. والواقع أن تلك الثورة لم تقم من أجل الخبز وحده، ولكنها قامت من أجل الحرية والعدالة والمساواة، ثلاثة مبادئ خلّدها التاريخ منذ الأزل، وسيظل الإنسان يناضل من أجلها، لأنها كانت وستظل مثل الماء والهواء، لا غنى عنها. وفي سياق ما حدث ويحدث اليوم على الساحة العربية فقد طال انتظار تلك الشعوب العربية لتحقيق المطالب الثلاثة: (الحرية، العدل، والمساواة) على أرض الواقع، ولهذا نرى انفجارات الغضب -بدءًا من تونس الخضراء- التي كان شعارها الكرامة التي لا يمكن تحقيقها بدون المبادئ الثلاثة الخالدة. ورغم كل المحاولات للالتفاف عليها، وإطفاء شعلة الاحتجاجات، إلاّ أنها استمرت حتى احتفل الشعب التونسي بفرح عميق وبهجة عارمة تعبر عن استعادته كرامته المتمثلة في حرية التعبير إحدى ركائز كرامة الإنسان في كل العصور. ومن تونس انتقلت موجة الغضب إلى مصر، وكان شعارها المميز أيضًا النضال من أجل استعادة كرامة الشعب المصري، بل كرامة الأمة العربية بكاملها، لأن مصر هي مركز الثقل السكاني والسياسي، وإذا غاب حضورها عن المشهد تحجّم دور الأمة العربية، والسبب في ذلك غياب الحرية والعدل والمساواة. وبنجاح الثورتين: التونسية، والمصرية انكشف الغطاء القاتم الذي خيّم على الشعب الليبي لمدة أربعة عقود من الزمن. وفي الحالات الثلاث مقارنة حقيقية ودروس سيحتفظ بها التاريخ لتكون عبرة للأجيال القادمة، من أهمها وأبرزها: تعامل المؤسسات العسكرية في البلدين معًا، حيث رفض الجيش التونسي أوامر البطش بالمتظاهرين من أجل الكرامة، ولم يكن أمام الحاكم إلاّ الهروب وسقوط النظام. وفي مصر أيضًا، وبعد انسحاب رجال الأمن الداخلي، نزل الجيش ليسد الفراغ بقدر كبير من التعقل والحكمة، التي تدل على نضج المؤسسة العسكرية وحسن تعاملها مع الحدث، مهما كانت صعوبته وخطورته على نظام الحكم. ولذلك نال الجيش المصري ثقة المتظاهرين، وأصبح البديل المقبول للمرحلة الانتقالية، وتخلى الرئيس عن منصبه وسلّم القيادة للجيش ليدير شؤون البلاد، وقد كانت أول بياناته التأكيد على التزامه بتلبية مطالب الشعب، وتعهده بتسليم السلطة لإدارة مدنية بعد فترة محددة أقصاها ستة أشهر، يتم خلالها أخذ كل التدابير اللازمة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، واختيار قيادة مدنية من الشعب، وهذا موقف حضاري بكل المقاييس يحتسب للشعب المصري، وجيشه العظيم، ويثبت أن الأمة العربية لازالت حية لم تمت. والحالة الثالثة هي غضبة الشعب الليبي وقيادته المتخلّفة، التي لم تتّعظ من جيرانها في تونس ومصر، بل إنها ادّعت أنها ليست مثلهم، وحقًا فإن القذافي أثبت أنه يختلف عن «بن على» وعن «حسني مبارك»، لأن كليهما مهما كانت أغلاطهما لم يدمّرا مقومات دولتيهما مثل المؤسسة العسكرية، ولم يقوما بحل أجهزة الدولة لصالح اللجان الشعبية، مثلما فعل القذافي، وفي النهاية خرجا بدون احتقار لشعبيهما، وبدون التهديد بإشعال نار الفتنة في كل بيت، وكل شارع، وكل مكان من أوطانهم، من أجل الاحتفاظ بالسلطة، مثلما فعل ملك الملوك معمر القذافي وأبناؤه وعصابته المقربون. إن موجة الغضب ومناشدة التغيير في بعض البلدان العربية؛ تحمل معها وعودًا ومحاذير، واستحقاقات طال انتظارها، حجر الزاوية لها (الحرية، والعدل، والمساواة)، ولحكمة تقتضي الاستفادة من كل درسٍ على حدة بكل ما يحمل من تفاصيل، وحسب الأولويات، التي يفرزها الزمان والمكان. فالمؤسسات العسكرية مهمتها الأساسية حماية الوطن، وليس قمع واضطهاد المواطن. والقادة وُجدوا من أجل خدمة الوطن وليس لظلمه وقهره، وإشعال نار الفتنة بين أفراد المجتمع وفئاته. وخلاصة القول في هذا المقام: إن الثورات القائمة ليست من أجل الخبز فقط، ولكنها من أجل الحرية والعدل والمساواة -في المقام الأول- وبدونها لا يوجد كرامة للشعوب... والله من وراء القصد.