مشكلة من مشاكل الكتابة المُسَلسَلة : أنه قد تعترض كاتبها أحداث جسام يَفترض بعض قرائه فيه أن يُشارك فيها برأي لكنه يقع بين خيارين : إما أن يقطع تلك السلسلة كلما جد حدث هام أو أن يمضي في مشروعه ويترك تلك الأحداث لغيره . هذا ما يقع لي الآن وقد آثرت أن أمضي في حديثي الذي بدأته منذ أسابيع عن معالم بيئة الفقر وتحدثت في تلك الأسابيع عن ثلاث من الظروف التي تحيا فيها جرثومة الفقر وهي فوضى الاستهلاك وغياب البيت عن الإنتاج وتنامي البطالة , بقي معنا الحديث عن النظم الرأسمالية التي تسربت لجميع الدول الإسلامية وكانت سببا رئيسا في تغذية الفقر بين شعوبها , وأعتقد أن مثل هذه الأنظمة تسربت أيضا إلى بلادنا وهي الآن تتسبب في تكاثر عدد الفقراء يوما بعد يوم . صحيح أن أثر هذه الأنظمة على الفقر لدينا يبدو للرائي بطيئا , وسر ذلك كون الدولة ولله الحمد تتمتع بدخل قوي جدا يعيق حركة تغلغل الوباء الرأسمالي إلى أعماق المجتمع لكنه مع الزمن يصل إليها ومن ثَم يُحدث أثرا بالغا في تلك الأعماق لا يلبث أن يطفو غثاؤه على السطح . أما الدول ذات المداخيل الضعيفة فإن الرأسمالية تتكفل بمضاعفة أعداد الفقراء فيها في كل يوم مرة أو مرتين . من التقاليد الراسمالية التي دخلت إلى بلادنا وكان لها أثر واضح في إنشاء أولى لبنات الفقر في مجتمعنا بعد أن ودعناه فترة من الزمن حين توحدت الدولة وكثر خيرها: النظام البنكي بصورته الأوربية الربوية , وقبل أن أمضي في بيان علاقته بالفقر أنبه إلى أن هذا النظام في طريقه للتصحيح بعد أن برزت المصرفية الإسلامية كقوة تستطيع أن تقدم لكبار المودعين ميزات أكبر وظمانات أفضل مما تقدمه المصرفية التقليدية , مع ملاحظة أن المصرفية الجديدة ما تزال في حاجة إلى صبغة إسلامية أكثر ظهورا . المصرفية التقليدية أعطت رأس المال الذي يوصف بكونه جبانا ذريعة قوية للجبن فهو في ظلها يحقق أرباحا منتظمة ومضمونة وبذلك لن يكون في حاجة إلى النزول إلى ميدان العمل إلا حين يحصل على أرباح تفوق بكثير أرباحه المصرفية مع ضمانات تجعل المغامرة المالية شبه معدومة , وهذه الذريعة كانت سببا في غياب المال الوطني عن التنمية في سوق الأبحاث والصناعات لأنه يجد مجالا أكثر ربحا وأقل مخاطرة في الاستيراد أو العقار أو الأسهم أو السندات أو تجارة العملة وهي أسواق تقل الحاجة معها أو ربما تنعدم إلى اليد العاملة .كما يساهم في زيادة الأسعار وضعف قدرات العملة أمام السلع الاستهلاكية . كما أن المصارف أيضا تأخذ على عاتقها تزيين عملية الاستهلاك في السلع التحسينية الغالية الثمن عن طريق تيسير قروض شرائها الأمر الذي يؤدي إلى انسياق المجتمع بأسره إلى مواصلة تجديد احتياجاتهم من هذه السلع حتى ينتقل اقتناؤها من كونه أمرا تحسينيا إلى ضرورة حياتية , وهو الأمر الذي يُصَيِّر كل أصحاب الدخول المحدودة من المواطنين أشبه ما يكونون أجراء لدى البنوك يقدمون لهن ما يزيد أحيانا كثيرة على نصف مداخيلهم التي لن تعود بعد الوفاء بمطالب البنوك لتفي بمطالب الأسرة الضرورية من أجرة سكن أو مصاريف تقتضيها رعاية أسرهم رعاية كاملة . كما أن تدخل المصارف في حياة الناس الاسستهلاكية يعد سببا أول في كثرة الطلب على السلع التحسينية الغالية مما يُُسهم بشكل واضح في زيادة أسعارها يوما بعد يوم حتى إننا حين نتتبع رسما بيانيا لأسعار تلك السلع منذ ثلاثين سنة مثلا لا نجد أنها انخفضت عاما من الأعوام بل لا نجد أنها توقفت عن النمو فيما يُعرف باستقرار السلع . وهذا الأمر – وهو المؤسف حقا – لم تقم المصرفية الإسلامية حتى اليوم بتقديم علاج له , بل على العكس ساهم ما يُسمى بالتورق المصرفي الميسر في تأجيج هذا الإقبال على الاستهلاك , وتبنته البنوك لأنه يقدم لها مكاسب أكثر ريعا وأكثر ضمانات من الفائدة الخالصة على القروض مما جعل المصارف التقليدية تجعل نوافذها مشرعة لعمليات التورق الإسلامية . في هذا المقال القصير لا يمكن إلا أن نقدم مثالا مجردا على القيم والنظم الرأسمالية التي أسهمت في رعاية جرثومة الفقر في بلادنا , وإلا فالخطب أكبر . والعجيب أن هذه القيم لا يوجد مؤشر إلى أنها في الطريق للزوال بل إننا نسمع عن السير وراء إنزال منتجات رأسمالية أخر إلى نظامنا الاقتصادي بشكل أكبر من وضعها المتواضع الآن كالرهن العقاري وسوق السندات وهما الأمران اللذان يقول المتخصصون إنهما كونا مع البنوك مثلث النكبة الاقتصادية التي كادت تطيح بالمؤسسة الاقتصادية الأمريكية وما زالت آثار أضرارها تنهك المواطن الأمريكي . ولعل كون الخبراء الموكل إليهم إدارة دفة الاقتصاد في بلادنا من مُخرجات المدرسة الاقتصادية الغربية هو ما أثر في تبني هذا المنهج في معالجة مشاكلنا المالية , ولهذا فإنني أدعو هؤلاء الخبراء إلى الانفتاح على المدرسة الاقتصادية الشرعية وعدم التعامل معها وفق أحكام مُسبقة وانطباعات بعيدة عن الواقعية , بل ينبغي المساهمة في تبني الحل الإسلامي لمشكلاتنا المالية والمساهمة في تقديم البدائل الشرعية للمنتجات الاقتصادية التقليدية , لأن بلادنا وهي النظام الإسلامي الوحيد في العالم يجب أن تكون هي المتبنية للحل الإسلامي لجميع مشكلات العالم ,ليس في الاقتصاد وحسب بل في التربية والاجتماع والعدالة وكل ما يهم البشرية .