انتقى سيل الأربعاء من أحياء جدة مواقع بعينها لتكون مسرحه الكبير ومستقر مياهه التى لا ترحم عجوزا ولا طفلا صغيرا بل وآثر أن يقدم لنا مشاهد للخراب أكبر من توقعات البشر وخيالاتهم أيضا ساخرا من الجهود “الكسيحة” التى تشدق بها المسؤولون ممن أوكلتهم الأيام حماية العروس وصونها وحملتهم مسؤولية الحفاظ على سلامة انسانها . وعلى الرغم من تباين أشكال المآسى التى تجرعها أبناء جدة فى صراعهم مع سيل الأربعاء يبقى حي النخيل هو أكثر الأحياء دفعا للضريبة ويبقى سكانه – إن جاز التعبير – البطل الأول في قصة الصراع “غير المتكافئ” بين السيل المرتدي ثوب الموت والانسان المسالم النائم على فراش الأمان . “المدينة” قامت بجولتها داخل حي النخيل الذى لم يعد له نصيبا من اسمه “المثمر” وتجولت بالكاميرا داخل بيوت كانت بالأمس عامرة والتقت رجالا وأطفالا قدموا الدموع بديلا عن مفردات القواميس “المملة” والتي لم تعد تحرك الضمائر أو تحفز المسؤولين. ************************* مأساة العوفي في بيت مصلح العوفي الرجل الذى أوهنه المرض وأعجزه عن الحركة كانت الحكاية الأولى التي حركت مدامعنا ووقفنا أمام فصولها في ذهول غريب. فالمياه أعلنت تحديها الصارخ لهذا الرجل المعاق وسخرت من ضعفه وضعف أولاده الصغار واجتاحت منزله ذا الطابقين بلا رحمة وكأنها على يقين بأنه لا حيلة للمعاق أمام سيل قادم بأقدام القوة وأيادي الجبروت. لم يفكر العوفي في الموت بل انحصر تفكيره في سلامة أبنائه ممن هربوا من الماء الى لا مكان. وعلت صرخاتهم الى حد أسمعت الجميع. حتى انه تمنى لو كان لحظتها صحيحا معافى لهزم السيل الذى جاء ليسرق أولاده الصغار. ولأنه انسان تعلق قلبه بالرحمن منحه الله قوة لم يستشعرها من قبل وأصبح يركض يمينا ويسارا ليلحق بزوجته وفلذات كبده في يوم وصفه ب قيامة الأرض وبالفعل نجح العوفى في الهروب بعائلته إلى سقف المنزل مكتفيا بغرفة خشبيه صغيرة تحميهم من عذابات هذا اليوم . حتى اذا ما هدأ السيل عاد العوفى ليطل بعينيه على منزله ليرى صورة الخراب وقد ارتسمت على كل أثاث البيت .حتى سرير النوم الذى كان ملاذا للجسد المتعب تحول الى بركة ماء كبيرة . مشاهد تستدعى الدموع من المآقى والعوفي يستعرض لنا أثاث البيت ويقول “هنا كان السرير وهنا كانت غرفة الصغار” كلمات بأفعال الماضي البعيد أما الحاضر فتحكيه الصور المفجعة والمؤلمة التي تدلل على انتصار السيل وهزيمة الانسان . الغريب أن يد العوفى العاجزة لم تعد الآن عاجزة فلقد كساها “الطين” وأغرقتها المياه كما أن ملابسه التي ظلت على حالها طيلة الأيام الأربعة دللت لنا على شرف المحاولة وحلم النجاة المشروع . وعلى الرغم من بانوراما الخراب في منزل الرجل المعاق الا ان دموع صغاره “بنات وأولاد” كانت وحدها المترجم للحكاية. فالأطفال يبحثون عن دفتر الواجب الذي طلب المعلم رؤيته في الغد وآخر يبكي ضياع قلمه الجديد الذي اشتراه بريالين من يومين. في بيت العوفي كل شخص يبحث عن مفقود ولكن للأسف كل شيء مفقود ولا شيء صالح الا عافية الأحياء. حيتان الخراب انتقلنا بعدسة “المدينة” لبيت آخر بل قل مسرحا جديدا . فأمام بيت جابر الخطابي احد ضحايا السيل الجارف رأيناه جالسا على كرسي خشبي ينتظر من يشاركه النحيب على الذكريات يتمتم بكلمات “أنا سمكة” ويقول “حسبي الله ونعم الوكيل فلقد ضاع بيتى حلم حياتى الوحيد بسبب السيول وحيتان الفساد ولم يعد هناك ما اعيش من أجله . لقد هربت بأولادى من مياه السيل وساعدني الجيران في نقل اسرتي إلى بيت أمى ب “دوار الفلك” وبقيت أنا هنا وحدي أحاول لملمة ما تبقى من أثاث وللأسف لا اجد شيئا اجمعه . صدقوني كل شيء في حياتي توقف ولا أدرى اين أذهب ؟ لا تحمّلوا السيل أكثر مما يحتمل بل حاسبوا حيتان الخراب ممن يتربحون بأوجاعنا . لم يتمالك الخطابي دموعه وقال اكتبوا عنى بلاخوف “لا سامح الله من تسبب في عذابي وتشريد صغاري وضياع ممتلكاتي”. حكاية الخوف عبدالرحمن الصاعدي موظف الشؤون الصحية حكاية أخرى عنوانها “الخوف” حيث حضر من عمله ليجد أولاده وقد احتجزهم السيل وباتوا يطلون عليه من أعلى البيت ويصرخون “اطلع بابا” فكل طرف يخاف فقد الآخر وعدم رؤيته مرة أخرى. 8 ساعات كاملة والصاعدي ينتظر وسط السيل واصفا المشهد ب “الأصعب والأكثر مرارة” ونفس الساعات تنتظرها الزوجة والأولاد واصفين المشهد “بالموت البطيء” حتى تفتق ذهن الرجل لاستدعاء إخوته الذين ساعدوه بحيل جديدة للصعود الى سقف المنزل وتخليص صغاره من أسر السيل الخانق وبدأوا في السباحة مجتمعين قرابة 4 كيلو متر وسط صرخات الخوف التي تصم المسامع. نجح الصاعدي بعد رحلة الساعات الطويلة في نقل الصغار الى حي الجامعة ضيوفا على منزل أخيه وعاد من جديد ليكون حارس البيت الخرب قائلا “سينهار بيتى لا محالة” فقد عبثت المياه بأساسه ولم يعد يقوى على الصمود . وصرخ الصاعدي قائلا .. أين الأمانة ومسؤولوها . وأين الدفاع المدني وآلياته . وأين الضمائر الحيّة وجميعنا مسلمون؟ عادل إمام السعودي انتقلنا بعدسة المدينة حافظة ذكريات بانوراما الموت إلى بيت فهد المدني ضحية جديدة ليستقبلنا بثوب النوم وبعينين زائغتين لاتعرف علام تطل وإلى أين تتجه بنظرها. حاولنا تهدئته فروى لنا حكايته بابتسامة لا تفارقه قائلا “السيارة تجري والكنب يجري والملابس تجري” لا شيء يتوقف أمام عيني. كل شيء ضاع مني ولم يعد أمامي هدف الا الحفاظ على صغاري ممن دمر السيل معنوياتهم وباتوا مرضى ب “فوبيا الخوف” ولا اخفيكم انني اتقمص عن قصد دور النجم الكوميدي عادل إمام من أجل اضحاكهم واستدعاء البسمة على ثغورهم . فلا ذنب لهم وهم جالسون القرفصاء فوق سطح البيت وعلى وجوههم تبدو ملامح الخوف والفزع. وتعجب المدني من غياب المسؤولين عن حي النخيل وسكانه فوالله لم يقترب منى مسؤول واحد يسألني ماذا حدث لك؟ لذا لا أملك من الكلمات الا “حسبي الله ونعم الوكيل”. أبو جبل ولصوص السيل حكاية غازي ابو جبل تبدو مختلفة فلقد ركز الرجل على لصوص السيل ممن حاولوا التربح والكسب من حالة الفوضى التى ألمت بالبيوت والمنازل حتى إنه قال “اللصوص لم يتركوا شيئا حتى كوع السباكة الذي اشتريته منذ يومين سرقوه من منزلي، لا تسألوا عن حالي فقط شاهدوا بيتي واكتبوا ما شئتم فالصور تكفي . فلقد تكلمنا كثيرا ولكن لا حياة لمن تنادي. ماتت الضمائر ولم تعد أمانة جدة ملاذ حماية بل سيفا يخترق صدر البسطاء من أبناء العروس .وقال لقد اتخذنا امانة جدة “فئران تجارب” بخططها واستراتيجياتها العقيمة. فتارة إغلاق سد أم الخير وتارة فتحه وهكذا حتى تأكد لنا اننا مسرح التجريب الأول وأبناؤنا وصغارنا كبش الفداء. المشاهد والقصص والحكايات تكفينا وتشبعنا للدلاله على ما فضحه السيل من عبث وما أكده من إهمال صارخ بل وتثبت لنا بالصورة لا بالكلمة ما أحدثه السيل من خراب في حي النخيل الذي حسبناه سيطرح لنا تمرا وشهدا فقدم لنا – مجبورا – خرابا تتقيأه الحلوق. ************************* سكان النخيل يستعينون ب“الشمس” لتنشيف سياراتهم الغارقة استعان سكان حي النخيل بالشمس لتنشيف سياراتهم من المياه الآسنة حيث شرع العديد في ترك سياراتهم “مفتوحة” من الداخل لتستقبل شمس النهار كما نشروا على اسوار وارصفة الشوارع بعض المقاعد والدعسات من المياه التي غمرت قرابة 600 سيارة في شوارع حي النخيل. واستقدم العديد منهم بعض الفنيين من اجل مساعدتهم في تشغيل سياراتهم “المعطوبة” ووشوهد العديد من اصحاب السيارات يحملون كاميرات من اجل تصوير سياراتهم وتسجيل الاضرار التي لحقت بها من اجل البحث عن تعويضات لها. كما استقدم العديد “الونشات غالية السعر” من اجل نقل سياراتهم للورش وللوكالات من اجل الاصلاح. ************************* جري المواطنين وراء أثاثهم.. مسلسل يحمل عنوان “ السراب” بدأ سكان حي النخيل - كبارا وصغارا ونساء - في عمليات بحث محلية عن أثاثهم ومقتنياتهم الغارقة من أجل اللحاق بها من قبل أن تذهب الى مكان غير معلوم وقال محمد المالكي انه وعدد من شباب بعض الاحياء شكلوا عبر جوالتهم الخاصة فريق عمليات مصغرة من اجل الابلاغ عن تواجد بعض السيارات التي جرفت الى مناطق اخرى او بعض الاثاث الذي جرفه السيل الى مواقع مجاورة او بعض المستندات الموضوعة في دواليب او خزانات فيما قال مهند الثمالي اننا نركض وراء ما يمكن تسميته بالسراب فالأثاث يظهر أمام اعيننا ويختفي ولا ندرى الى متى سيظل الركض وراء أشيائنا التي سرقها السيل في غفلة من حرّاسها؟