لا خلاف على أن إنصاف المتضرر واسترجاع الحق وردع الجاني، كلها قيم إنسانية رفيعة ورائعة وتتسق مع تعاليم شريعتنا المطهرة. ولكن لا خلاف كذلك على أن في واقع الحياة أولويات لابد من مراعاتها، فنحن لا نعيش مثالية لم تتوفر حتى في الجيل الأول رضوان الله عليهم. ومن الأولويات حتماً إعطاء الحقوق الواضحة الظاهرة البينة، وهي بالتأكيد أكثر أهمية من البحث في جدليات قد تصيب وقد تخطئ. واقع الحياة: يقول إن المحاكم الشرعية والمتخصصة تعج بعشرات الألوف من القضايا الواضحة التي لا تعتمد على غيبيات مثل التضرر من عين عائن أو حقد حاسد. هناك قضايا لا تزال تحت النظر بالرغم من توفر الأدلة والقرائن التي يقدمها كل طرف خاصة الأضعف منهما. ومع ذلك تدور كثير من هذه القضايا (الواضحة) سنوات وسنوات، لأن أحد الطرفين يماطل ويماطل تحت ألاعيب وحيل متنوعة، ومثال ذلك قضايا الخلع والطلاق والديون والحقوق المالية. وثمة قضايا أخرى تنتهي بإصدار أحكام، لكنها لا تجد إلى التنفيذ سبيلاً، فيضيع الحق وينتفش الباطل، ومنها قضايا النفقة والحضانة والقضايا المالية الواضحة المحكوم في أمرها. هل من الحكمة شغل المحاكم فوق ما هي مشغولة بقضايا العين والحسد، ومن قبلها قضايا تكافؤ النسب؟! هل وصل بنا الترف إلى حد الانشغال بالمفضول عن الفاضل، وبالغامض عن الواضح، وبالمجهول عن المعلوم؟! شخصياً أقدر هذه المحاولات لردع كل متسبب في الإضرار بالآخرين، ومنهم العائنون، لكن العين لا تصيب إلا بقدر من الله، والتحوط منها لا يكون إلا بما أمر الله به من آيات ونصوص التحرز والحفظ والاستعاذة. الحسد داء قلبي يؤذي صاحبه أولاً، أي هو من أعمال القلوب التي هي أقرب إلى الغيب المحجوب عن البشر، فلم الخوض في غيبيات لم يُؤثر مثلها عبر التاريخ. في نظري أن محاكمنا تعج بأنواع من القضايا، وبأرتال من الملفات لم يسبق لها مثيل، والأولى تحرير المجتمع من هذه التراكمات قدر المستطاع، كما تحرير المحاكم نفسها وأصحاب الفضيلة القضاة أنفسهم أعانهم الله وأجزل للمحسن منهم الثواب.