يعرف المتعمق في دراسة الليبرالية أنها ليست ليبرالية واحدة من قبل أن يشتق هذا المفهوم من مفهومه الأم «الليبرتارية»، وذلك يعني أن هناك عدد من الليبراليات منها: ليبرالية سياسية، وليبرالية اقتصادية، وليبرالية اجتماعية، وحتى ليبرالية معرفية أو ثقافية. ومرد كل هذه الاتجاهات الليبرالية إلى ثلاثة أسس هي: الحرية، والفردية، والتعددية. وقبل الحديث عمّا أحدثه الدكتور عبدالله الغذامي من جلبة على الساحة السعودية برمتها، وقبل أن أدخل في الحديث عن تفصيلات ما ورد على لسان الغذامي، أقول إنني أخشى أن يكون الرجل يعيش وسط أزمة فكر، لا يعانيها هو لوحده في عالمنا العربي بل يعاني منها كثير من المفكرين والمثقفين، وسبب هذه الأزمة نابع من تردي أوساطنا السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، على حدّ سواء، والحاذق من يستطيع الخروج من هذه الأزمة وعدم تأثير هذه الظروف عليه. فقد يكون الغذامي واحد من الذين ساءتهم الظروف المحيطة بهم، واشتدت عليه الأزمات، وهو الناقد الحاذق، والمشغول الدائم بالنقد الثقافي، فأورثه ذلك شيئًا من الحسرة على أفكار كان يتبناها مع غيره في السابق، ولكنه اليوم يعود لأن ينتقد هذه الأفكار، وهذه المبادئ التي تسمى (الليبرالية)، ومثله تمامًا كارل ماركس الذي أساء في يوم فهم الليبرالية ورآها قاعدة للبرجوازية، ووصف نتائج المجتمع الليبرالي قبل قرن من الزمان بأقذع وصف. باعتقادي أن ما عجز الغذامي عن التفريق فيه هو التفريق بين الليبرالية كتيار له مبادئه ورؤاه، وبين من يتعمد المناداة بهذا بتبني هذا التيار، إذ لا يعني بأي حال من الأحوال فشل الأشخاص في تنفيذ الأفكار وبلورتها على أرض الواقع، أن تكون النظريات أو المبادئ غير قادرة على ذلك، والحال بمثال أقرب كما نقول إن للإسلام مبادئ وأفكار كبيرة وعميقة، ولكن المسلمين هم اليوم من أخفق في تبنيها فغدا حالهم مترديًا. المشروع الليبرالي في المملكة لم يتبلور بالشكل المطلوب، وكل ما يعمل الآن على الساحة هو مجرد إرهاصات إن استمرت بهذه الطريقة فإني أخشى من أن تولد لنا في المستقبل القريب ليبرالية مشوهة، وليست فقط موشومة، إذ لا بد من النظر جيدًا في مطيعات هذا الفكر «الليبرالي»، ومده بالبحث والدراسة المنطلقة من مبادئه ونظرياته، والمتوائمة مع تطبيقاته على أرض الوقع السعودي، هذا إن أردنا فعلاً تطبيق ذلك. وصعوبة الواقع في التطبيق الليبرالي نابعة من عوامل كثيرة، ومسائل شائكة منها، أن وجود أكثر من تيار في البلد، وربما يكون أكبرها هو المسيطر، وهو الحاكم، والمتحكم، في عقول كثير من الأفراد، ونظرته متعصبة إلى حد كبير في تبني وجهة النظر الموافقة له، ومعاداة وجهة النظر المختلفة معه، فإن ذلك من شأنه أن يضعف مفعول هذا التيار الناشئ، ويجعل منه كبش فداء لمن أراد أن يحذوا حذوه. وكما يحاول العالم اليوم بعث «أسس ورؤى الليبرتارية»، وهي: لا مركزية السلطة، والفردية، والحقوق الأساسية، والنظام التلقائي، والتبادل الحر، والسلام. فإن بعث هذه الأسس من جديد في عالمهم الحديث سيكون له المردود الإيجابي في معاودة طرح هذا الفكر من جديد، وبأسسه الأصيلة بعيدًا عن التحريف والتبديل والتحويل، وسيوفر إطارًا لفهم العالم وإنشاء نظام اجتماعي يستخدم الناس فيه معرفتهم للسعي من أجل تحقيق سعادتهم. والسؤال فعلاً هل تتواءم الليبرالية اليوم مع الدولة الحديثة؟؛ من حيث النظام السياسي، والاجتماعي، وحرية الدين والتعبير، وتأمين حقوق الملكية. أم أنه لا بد أن تتغير لتكون أكثر ملائمة لها؟، وهل الليبرالية فعلاً تتصارع مع الدين، أم أنهما يتفقان من حيث لا يظهر لنا ذلك؟. الليبرالية في العالم ككل تعاني من أزمة في ذاتها، وفي تطبيقاتها، بل وصل الأمر إلى المطالبة بمراجعة أسسها التي يظن فيها الخلل، أو في تطبيقات هذه الأسس، ولذلك فالغذامي لم يأت لنا بجديد، سوى أنه رجل شجاع حينما خرج من وسط التيار، بل صرخ من أعلى قمة في الهرم ليقول لنا أن «ليبراليتنا موشومة». ولذلك فإن «أنطونيو مارتينو» حينما كتب «الليبرالية في العقد القادم»، بيّن أن مسألة ما إذا كانت الأفكار تُحدِثُ تأثيرًا مختلفًا هي مسألة مهمة بالنسبة لنا. يبدو أن الأفكار الليبرالية قد لا تسود عمليًا في الوقت الذي تُطرح فيه، لكنها أكثر قابلية للدوام من نظيراتها الأخرى. ويرى أنطونيو أن المشاكل والصعوبات التي تواجه مستقبل الليبرتارية والليبرالية كبيرة وعديدة جدًّا. وهو يعتقد أن أفكار المفكرين الليبراليين العظام دامت لفترات أطول بكثير. بفضل استدامة التقليد الليبرالي، الذي واصل البقاء خلال السنوات المظلمة التي ساد فيها قبول عام للاشتراكية، يمكننا اليوم أن نستمتع بالأحداث المثيرة لعصرنا. هذا الكلام من قبل الدكتور الغذامي ينبغي فيه ملاحظة أنه حتى وإن تغيرت الآفاق التي يمكن أن تمارس فيها الليبرالية اليوم في العالم إلاّ أنها تبقى ملتزمة بالمبادئ القديمة والثابتة، ويؤمنون أن المبادئ التي وضعها جون لوك وآدم سميث وغيرهم تخلق إطارًا للتقدم، وخللها اليوم في التطبيق كما أوضح ذلك الغذامي. وحديث الجدل هذا عن «الليبرالية السعودية» لم يكن وليد لحظة فمنذ فترة ليست بالقصيرة ونحن نسمع عن تبني أفراد لفكر تيار ليبرالي في السعودية، ولكن هذا التبني كان بدون منهج، ولا رؤية، ولا أهداف، وأكثر ما وصل إليه هو كتابة بعض المقالات في الصحف، وبعض المنتديات الإلكترونية. وربما يعود السبب في عدم تبلور المشروع الليبرالي في السعودية كمنهج واضح المعالم والرؤى والأهداف هو عدم الإلمام الجيد من قبل متبنين هذا الفكر لموضوع «الفلسفة» التي تعد ركيزة أساسية في تكوين الفكر الليبرالي، وكل ما نشاهده أيضًا من ممارسات فلسفية في السعودية في الفترة الأخيرة هي مجرد هواية للدخول في هذا المجال، فلا مدارسنا تدين بالفلسفة، ولا جامعاتنا تفرد لها أقسامًا خاصة، ولا الواقع يمكن أن يعيها أو يحفل بها، فكيف يمكن أن يقوم هذا الفكر وكثير من أرضياته غير متوفرة بتاتًا، ونحن إن أردنا لليبرالية أن تقوم لابد من فهم أدواتها، والظفر بمفاتيحها، حتى يمكن أن نشكلها على ضوء واقعنا، وأفكارنا. هذا الرأي للغذامي عن الليبرالية نجده أيضًا يتفق مع آراء محافظة، ومع رؤى التيار الديني في المملكة، بل ويتقاطع معها جيدًا، وربما يردم كثيرًا من الفجوة بين الغذامي، والتيار المحافظ، وأذكر أن الغذامي قد قال ذات مرة في حوار صحفي أنه تحول إلى التيار الإسلامي وترك الحداثيين!، ويده ممدودة للإسلاميين، بل وصل به الأمر إلى قوله بإحراق كتبه لو طلبوا منه ذلك وأول ما سيحرقه هو كتاب «الخطيئة والتكفير». هذه التحولات التي يطالعنا بها الغذامي من فترة لأخرى ربما تقع في جانب تصفية الحسابات بين الغذامي وزملائه السابقين، ولذلك قام بشن هذا الهجوم عليهم في «ليبراليته الموشومة»، وما صنعه في كتابه «حكاية الحداثة في السعودية» أيضًا ليس ببعيد عن هذا، وربما هو تراجع واضح وصريح من قبل الرجل عن كثير من أفكاره وقناعاته لأنه كما يقول: «أنا أراجع أفكاري وقناعاتي باستمرار»، بل يرى أن «الذي يصر على أفكاره وقناعاته رأسه من حجر». وما يحسب للرجل من كل هذا أنه دائمًا محط خلاف خاصة ما يثيره بين فترة وأخرى من آراء وأفكار ومواقف في أحيان أخرى لا أراها تتفق إلاّ مع ما يعتقده ويؤمن به، سواء رأى بذلك من يصفه بحب الظهور واعتماده على الإثارة الإعلامية أم من كان يصفه بغير ذلك.